الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فقد ذكر بأن "السمنية" طالبوه بأن يكون إلهه معروفا ببعض حواسه الخمس، وأن ما لا يعرفه هو بشيء من حواسه الخمس، فإنه لا يعلمه، وهذا يقتضي أن ما لا يحسه الإنسان بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعرفه، وهذا تغليط منهم فظن أنهم يقولون إن مذهبهم أن الإنسان لا يعرف شيئا إلا ما يحسه ببعض حواسه الخمس. ثم إن الجهم أجابهم بدعوى وجود موجود لا يمكن إحساسه أيضا، فقطعهم مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضا، ولو كانوا هم لا يقرون إلا بما [ ص: 332 ] أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة، لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس وقياس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام، ولا أمكن مخاطبتهم به، كما لا يمكن أن يحتج بقول الأنبياء على من كذبهم.

ولا يقال: هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه؛ لأنه يقال: لو كان من أصلهم أنهم لا يقبلون القياس في المحسوس لكانوا لا يقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس، وكانوا يقولون: هذا يعلم وجوده كما ذكرت، فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء لا يعرف حكمه من جهة النظير.

بل الذي يقال: إن القوم كانوا يقولون: لا يكون شيء موجودا إلا أن يمكن إحساسه، فلا يصدق الإنسان بوجود ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس؛ لا يقولون: الإنسان المعين لا يعلم إلا ما أحسه هو؛ بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه، وينكر أيضا وجود نظير ما أحسه، أو لا يمكنه الاعتراف بذلك؛ فإن هذا لا يتصور أن تقوله طائفة مدنية. وقد ذكر هذا المتكلمون، فقالوا: إن الطائفة التي تبلغ [ ص: 333 ] مبلغ التواتر لا يتفقون على إنكار ما يعلم بالضرورة، كما ذكر المؤسس في هذا الكتاب: أن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات. فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به طوائف العقلاء أن يقعوا في شيء من هذا السلب، وكلا الأمرين باطل؛ بل التحقيق أن العقلاء لا يتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطؤ واتفاق، كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطؤ ولا اتفاق؛ وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كما قد يجهل بعضها، وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لعارض يغيره عن فطرته. وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لعارض، فهو وإن (كان ظلوما جهولا ) فذاك في كثير من الأمور، أما أن تكون أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدا؛ فإن اجتماع بني آدم في الدنيا -وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لا يعيشون بدونه- لا يتصور مع هذا الإنكار، وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبا وأما وأخا ونحو ذلك. ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه [ ص: 334 ] لأمه ولا ولادة أمه له، وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته، مع أنه لا بد من الاعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها، وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء. وكذلك لا بد أن يعرفوا أن آباءهم وأمهاتهم مولودون، وأن أجدادهم ماتوا، وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه. ولا بد أن أحدهم يستعين بالآخر على جلب منفعة ودفع مضرة فيأتيه فيصلح له طعاما وشرابا أو لباسا، ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك؛ بل يستفيده من إخبار المباشرين له. وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعاتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة؛ بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها، ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أتي به إليه من مكان لم يشهده، وصنع بأسباب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل أمة من رئيس مطاع وكبير منهم [ ص: 335 ] لا يشهدونه، وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها، وإنما يتسامعون بها؛ ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء، وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة.

التالي السابق


الخدمات العلمية