الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وقد ذكرنا فيما تقدم ما في كتابنا هذا قول الله عز وجل : ( الحج أشهر معلومات ) ، وما روي في ذلك مما يراد به من الشهور ، ويتلو ذلك من الآية قول الله عز وجل : ( فمن فرض فيهن الحج ) وكان يعني قوله جل وتعالى : ( فمن فرض فيهن الحج ) أي من أوجب على نفسه الحج فيهن . فاحتمل أن يكون قوله جل وتعالى ( فمن فرض فيهن الحج ) ، أي من أوجب على نفسه أن يحج فيهن ، كان ذلك الإيجاب فيهن أو قبلهن . لأن الحج الذي يوجبه على نفسه لا يكون إلا فيهن . واحتمل أن يكون أراد بمن أوجب على نفسه الحج فيهن ، فيكون عني الإيجاب والحج جميعا فيهن . وكان معنى قوله عز وجل : فيهن أي : في بعضهن ، لأن الإيجاب الذي أراد عز وجل بقوله : فيهن إن كان الحج ، فإن الحج إنما يكون في بعض أحدهن . وإن كان هو الإحرام فإنما يوجبه على نفسه أيضا في ساعة من إحداهن فيلزمه ذلك . ولم نر أحدا من أهل العلم ذهب إلى أن المراد بقوله عز وجل : فيهن أي : في جميعهن ، ولا أوجب على أحد ممن أراد الحج أن يحرم في أول يوم من شوال حتى يكون في شهور الحج كلها محرما بالحج .

                  [ ص: 18 ] فإن كان المراد بالآية ما ذكرناه من التأويل الأول من هذين التأويلين ، وإنه على أن يكون من أوجب على نفسه أن يحج فيهن كان ذلك الإيجاب فيهن أو قبلهن . ثبت بذلك أن للناس جميعا أن يحرموا بالحج في أشهر الحج وفيما قبلهن ، ثم لا يكون الحج الذي يوجبونه إلا في الوقت الذي يقضى فيه الحج من شهور الحج .

                  وإن كان المراد بالآية ما ذكرنا من التأويل الثاني ، وإنه على أن يكون إيجاب الحج وقضاء الحج فيهن ، لم يكن ذلك مانعا من الإحرام به قبلهن . لأنا قد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل للإحرام بالحج مواقيت معلومات ذكرها وسماها ، وسمى أهلها والمارين بها من غير أهلها . وروي عنه في ذلك ما :

                  1134 - قد حثنا يونس والربيع بن سليمان المرادي ، قالا حدثنا يحيى بن حسان ، قال حدثنا وهيب بن خالد وحماد بن زيد ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم . ثم قال : هي لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهن . فمن كان أهله دون الميقات ، فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة .

                  1135 - وما قد حدثنا علي بن معبد ، قال حدثنا كثير بن هشام ، قال حدثنا جعفر بن برقان قال : سألت عمرو بن دينار عن امرأة حاجة مرت بالمدينة ، فأتت ذا الحليفة وهي حائض فقال لها : كريها ، لو تقدمت إلى الجحفة فأحرمت منها .

                  فقال عمرو : حدثنا طاوس ، ولا يحسبن فينا أحد أصدق من طاوس ، قال : قال ابن عباس : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر مثله . غير قوله : " فمن كان أهله " إلى آخر الحديث ، فإنه لم يذكر ذلك .

                  1136 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهيب بن جرير ، قال حدثنا شعبة عن عبد الله بن دينار ، عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 19 ] أنه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم .

                  1137 - وما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال حدثنا أبو نعيم ، قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار ، قال : سمعت ابن عمر يقول : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله . ولم يذكر في إسناده نافعا .

                  فلم يكن توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس هذه المواقيت مانعا لهم من الإحرام بالحج قبلها ، لأن من أحرم بالحج في أشهر الحج قبل هذه المواقيت أو بعدها لزمه الحج باتفاقهم جميعا ، لا اختلاف بينهم فيه علمناه .

                  وإن كان المقصود إليه بتوقيتها هو أن يكون الإحرام منها غير متقدم لها ولا متأخر عنها . فلما كانت المواقيت التي ذكرنا للإحرام لا يمنع من الإحرام بالحج قبلها ولا بعدها وإن كان الذي أحرم به بعدها مسيئا ، كان الأوقات أيضا للإحرام لا يمنع من الاحرام بالحج قبلها .

                  فقال قائل : فقد روي عن جابر أنه سئل : أيحرم الرجل بالحج في غير أشهر الحج ؟ قال : لا . ولم نجد في ذلك عن أحد من الصحابة ما يخالفه .

                  قيل له : لكنا قد وجدنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يدل على خلاف ما قال جابر في هذا .

                  1138 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب بن جرير عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة المرادي ، قال قال رجل لعلي رضي الله عنه قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) ؟ قال : تحرم من دويرة أهلك .

                  فهذا علي رضي الله عنه قد قال هذا القول جوابا لقائله عن تأويل الآية التي سأله عن تأويلها ، وأخبره أن الإتمام للحج والعمرة المذكور فيهما من حيث ينشئهما الذي يريدهما . وقد كان هذا الجواب منه ، وللمسلمين بلدان مسافة ما بينها وبين مكة أكثر من .

                  [ ص: 20 ] مدة شهور الحج . ومعلوم أن المحرم بالحج منها الذي يوافي مكة في إحرامه بالحج منها لم يكن إحرامه ذلك إلا قبل شهور الحج بمدة طويلة . وعلي رضي الله عنه فجمع الناس جميعا في جوابه الذي حكيناه عنه . ولم يفرق بين بعيد الدار منهم من مكة ، ولا بين قريب الدار منهم منها . فدل ذلك على إطلاقه للناس الإحرام بالحج قبل أشهر الحج . وكان ذلك عندنا أولى من قول جابر الذي ذكرنا . لأن عليا أخبر أن ذلك تأويل آية أخرى من كتاب الله عز وجل ، ولم يرو عن جابر ، ولا عمن سواه وسوى علي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل تلك الآية غير أن الذي رويناه عن علي تأويلها ، وجابر فإنما روي لنا عنه في ذلك قوله من رأيه وكان القياس على ما قال علي من ذلك أدل لما قد ذكرناه من المواقيت فيما تقدم منا في هذا الباب . وهذا الذي ذكرناه من مذهب علي في الإحرام بالحج قبل شهور الحج ، قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد . حدثنا بذلك من قولهم محمد بن العباس عن علي بن معبد ، عن محمد عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ؛ وأبي يوسف ، ومحمد . حدثنا بذلك من قولهم محمد بن العباس عن علي بن معبد ، عن محمد عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ؛ وعن علي ، عن محمد عن أبي يوسف ؛ وعن علي عن محمد .

                  وقد كانت طائفة من أهل العلم تقول : إن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يوجب على المحرم به عمرة ، ولا يوجب عليه حجة ، وهذا القول فغير صحيح عندنا من جهة التأويل ، ولا من جهة الآثار ، ولا من جهة القياس . لأن المحرم بالحج في غير أشهر الحج لا يخلو من أحد وجهين :

                  إما أن يكون يلزمه الإحرام بالحج كما أحرم به ، أو يكون لا يلزمه به الحج الذي أحرم به ، فيكون كمن لم يحرم به . ويكون لما لم يدخل فيه بإحرامه غير داخل في غيره . كرجل أحرم بالظهر قبل زوال الشمس فلا يكون بذلك داخلا فيها ، ولا في غيرها .

                  فإن قال قائل : إنما رددت إحرامه بالحج قبل أشهر الحج إلى أن جعلته عمرة . لأني رأيت الذي يفوته الحج قد رد إحرامه بالحج إلى عمرة !

                  فقيل له : تحل بعمرة وعليك الحج من قابل . فرد إحرامه ذلك من الحج إلى العمرة لفوت الحج إياه . قال : فكذلك رددت المحرم بالحج في غير أشهر الحج إلى العمرة لتقدمه في إحرامه وقت الحج . قيل له : وهل أعدنا إحرام الذي فاته الحج بالحج الذي كان أحرم به إلى أن جعلناه عمرة ؟ إنما أمرناه أن يفعل ما يفعل المعتمر من الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة حتى يحل من حرمة ما هو فيه من الحج . وذلك ما هو يمكنه أن يفعله من الحج .

                  [ ص: 21 ] الذي كان دخل فيه ، لا ما سواه مما قد فاته منه . وكيف يكون معتمرا بغير تلبية يستأنفها ويدخل بها في العمرة ؟ ألا ترى أنه لو لم يكن بعد أن فاته الحج حتى طاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة ، وحلق أنه قد حل ، وقضى ما عليه مما يوجبه فوات الحج عنه إلا ما يوجبه عليه مع ذلك من يوجبه عليه ما استيسر من الهدي . وسنذكر ذلك وأقوال أهل العلم فيه ، وما يدخل لبعضهم على بعض فيه ، وما يصح في ذلك بآثار أو بقياس في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

                  وإنما قيل له : يحل بعمرة . أي يحل بمثل ما يحل به المعتمر . وإن كان ما يفعله من ذلك للحج الذي قد فاته ، لا لعمرة يأتنفها . أولا ترى أن من أحرم بعمرة أمر أن يلبي لها إلى وقت ما . فطائفة من أهل العلم تقول : إلى استلام الحجر . وطائفة منهم تقول : إلى أن يرى عروش مكة .

                  وسنذكر ذلك ، وما روي فيه ، وما يوجبه القياس فيه في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية