الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  باب تأويل قوله تعالى : ( فمن تمتع بالعمرة ) الآية كلها .

                  قال
                  الله جل ثناؤه : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) .

                  [ ص: 228 ] فأما المتمتع الذي يوجب الهدي الذي ذكرنا ، أو الصيام الذي وصفنا ، فإن أكثر أهل العلم منهم : أبو حنيفة ، ومالك بن أنس ، وسفيان بن سعيد الثوري ، وزفر بن الهذيل ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، كانوا يقولون : من كان من غير حاضري المسجد الحرام ، فأنشأ العمرة في أشهر الحج ، وهي : شوال ، وذو القعدة ، والعشر الأول من ذي الحجة ، فطاف لها في هذه الأشهر ، وحل منها ، ثم حج من عامه ذلك ، ولم يرجع فيما بين عمرته وحجته إلى أهله ، فهو متمتع ، وعليه ما على المتمتع على ما في الآية التي تلونا ، وإن رجع إلى أهله بين عمرته وبين حجته ، ثم حج من عامه ذلك ، لم يكن متمتعا في قولهم جميعا هكذا حدثنا محمد بن العباس ، عن علي بن معبد ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، وعن علي ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، وعن علي ، عن محمد ، بما ذكرنا .

                  وهكذا :

                  1625 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال أخبرنا عبد الله بن وهب ، أن مالك بن أنس ، أخبره ، قال : من اعتمر في شوال ، أو في ذي القعدة ، أو في ذي الحجة ، ثم رجع إلى أهله ، ثم حج من عامه ذلك ، فليس عليه هدي ، إنما الهدي على من اعتمر في أشهر الحج ، ثم أقام قبل الحج ، ثم حج .

                  قال أحمد : وهذا قول الشافعي أيضا وقد روي هذا القول عن غير واحد من التابعين ، منهم سعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاووس ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، كما :

                  1626 - قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال : إذا اعتمر الرجل في أشهر الحج ، ثم رجع إلى أهله ، ثم حج من عامه ذلك ، فليس عليه هدي .

                  1627 - وكما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا [ ص: 229 ] حماد ، قال حدثنا ليث ، عن عطاء وطاووس ، ومجاهد ، مثله .

                  1628 - وكما قد حدثنا محمد ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، عن قيس ، عن عطاء ، مثله .

                  1629 - وكما قد حدثنا محمد ، أيضا ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، عن عطاء ، والنخعي ، مثله .

                  1630 - وكما قد حدثنا محمد قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد عن عبد الملك بن جريج ، عن عطاء ، أنه قال : إذا قدم الرجل معتمرا في أشهر الحج ، ثم ذهب إلى المدينة ، ثم حج من عامه ذلك ، فليس عليه هدي وإن خرج إلى ما لا تقصر إليه الصلاة ، ثم حج ، فعليه الهدي .

                  وهذا الذي ذكرنا عن هؤلاء المتقدمين من خروج المتمتع من المتعة برجوعه إلى أهله بين عمرته وبين حجته ، ففي كتاب الله عز وجل ما يدل على ما قالوه فيه ، وذلك أنه عز وجل ذكر المتعة وما يجب على أهلها ، ثم قال : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) فاستثنى حاضري المسجد الحرام ممن أباح له المتعة ، فمنعهم منها ، وكان حاضرو المسجد الحرام هم المقيمون في أهليهم بين عمرهم وبين حججهم ، فإذا صار المعتمر الذي ليس من حاضري المسجد الحرام إلى أهله بين عمرته وبين حجته ، كان في رجوعه إلى أهله ، وفي إقامته فيهم بين عمرته وحجته كحاضري المسجد الحرام ، فخرج بذلك من المتعة .

                  فأما من كان من غير حاضري المسجد الحرام فرجع بين عمرته وبين حجته إلى أفق من الآفاق سوى الأفق الذي فيه أهله ، فقد حكينا عن ابن جريج ، عن عطاء ، فيما تقدم منا [ ص: 230 ] في هذا الباب ، أنه قال : إذا قدم معتمرا في أشهر الحج ، ثم ذهب إلى المدينة ، ثم رجع من عامه ذلك ، فليس عليه هدي ، وإن خرج إلى ما لا تقصر إليه الصلاة ، ثم حج ، فعليه الهدي ، فقد وقفنا به على أن قول عطاء فيمن يرجع إلى موضع المسافة بينه وبين البيت مقدار ما تقصر فيه الصلاة ، وإن لم يكن ذلك الموضع الذي رجع إليه هو الموضع الذي فيه أهله ، فقد خرج بذلك من المتعة ، وصار رجوعه إلى ما هناك كرجوعه إلى أهله .

                  وقد روينا عن سعيد بن المسيب ، وطاووس ، ومجاهد ، والنخعي في ذلك في هذا الباب ما قد رويناه عنهم وقصدهم في إخراجه من المتعة بالرجوع إلى أهله فيما بين عمرته وبين حجته ، لا إلى ما سوى ذلك من سائر الآفاق التي ليس فيها أهله .

                  وروينا عن عطاء بن أبي رباح في هذا الباب أيضا ، من حديث قيس بن سعد ، والحجاج بن أرطاة ، مثل الذي رويناه من ذلك عن ابن المسيب ، وطاووس ، ومجاهد ، والنخعي فقد صار هذا المعنى مختلفا فيه عن عطاء بن أبي رباح .

                  وقد اختلف أهل العلم من بعدهم في الرجل من أهل الآفاق ، من غير حاضري المسجد الحرام إذا رجع بين عمرته وبين حجته إلى أفق من الآفاق ، سوى الأفق الذي فيه أهله ، هل يخرج بذلك من المتعة ، ويسقط عنه ما يجب على المتمتع مما في هذه الآية التي تلونا في صدر هذا الباب ؟ أو لا يخرج بذلك عن التمتع ، ولا يسقط عنه الذي في الآية التي تلونا في صدر هذا الباب ؟

                  فكان أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن يقولان : لا يخرج من المتعة ، ولا يسقط عنه الواجب فيها مما في الآية التي تلونا في صدر هذا الباب إلا برجوعه إلى الأفق الذي فيه أهله ، لا إلى ما سواه من الآفاق ، وهذا القول الذي يرويه محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف .

                  وأما أصحاب الإملاء فذكروا عن أبي يوسف ، أنه أملى عليهم ، أنه إذا رجع إلى أفق من الآفاق ، أو رجع إليه أهله فيما بين عمرهم وحججهم ، خرجوا بذلك من المتعة ، وسقط عنهم ما في الآية التي تلونا في صدر هذا الباب كان في رجوعه إلى ما هناك كرجوعه إلى الأفق الذي فيه أهله ولما كان الله جل ثناؤه وعز قد قال في كتابه في المتعة :

                  [ ص: 231 ] ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) ، فذكر الأهل ، ولم يذكر الآفاق ، وجعل من كان أهله من حاضري المسجد الحرام ممنوعا من المتعة ، كان رجوعه إلى ما يمنعه من المتعة ، ويسقط عنه الذي أوجب الله عز وجل على المتمتع ما في الآية التي تلونا في صدر هذا الباب وكان رجوعه إلى غيره لا معنى له يخرج به من المتعة ، ويسقط به عنه ما في الآية التي تلونا في صدر هذا الباب فثبت بما ذكرنا فيما حكينا فيه هذا الاختلاف الذي وصفنا من قول أبي يوسف الموافق لقول أبي حنيفة ، ولقول محمد بن الحسن الذي حكيناه عنهما ، والمخالف له الذي قاله في إملائه ، ما قال أبو يوسف في قوله الذي وافق أبا حنيفة ، ومحمد بن الحسن .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية