الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وقد اختلف أهل العلم في خطب الحج ، فكان بعضهم يقول : هي ثلاث خطب ويختلفون في أوقاتها ، فيقول بعضهم : إحداهن قبل التروية بيوم بعد صلاة الظهر خطبة واحدة لا يجلس فيها ، وأخرى يوم عرفة بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر والعصر خطبتين يجلس بينهما جلسة كما يصنع في الجمعة ، وخطبة أخرى بعد النحر بيوم بعد الظهر خطبة واحدة لا يجلس فيها وممن قال ذلك منهم أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والحسن بن زياد فيما ذكر لنا محمد بن العباس ، عن يحيى بن سليمان الجعفي ، عن الحسن بن زياد ، عن أبي يوسف قال الحسن : وبه نأخذ وقد روينا هذا القول أيضا عن أبي حنيفة ، وعن محمد بن الحسن من غير هذا الوجه ، وقد روي مثل ذلك أيضا عن مالك بن أنس .

                  حدثنا عبيد بن محمد البزار ، قال حدثنا أحمد بن صالح ، قال : قرأت على ابن قانع ، قال قال مالك : يخطب إمام الحج ثلاث خطب : خطبة قبل التروية بيوم بعد الظهر ، وخطبة يوم عرفة قبل الظهر ، وخطبة بعد النحر بيوم بعد الظهر .

                  وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما :

                  1367 - قد حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي ، قال حدثنا إبراهيم بن الجراح ، قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في الحج ثلاث خطب ؛ خطبة قبل التروية بيوم بعد الظهر ، وخطبة عشية عرفة ، وخطبة بعد النحر بيوم بعد الظهر .

                  [ ص: 122 ] ولم نسمع هذا الحديث من غير هذه الجهة .

                  ويقول بعضهم : يخطب إحداهن قبل التروية ارتفاع النهار خطبة واحدة لا يجلس فيها ، ويخطب إحداهن يوم عرفة بعد زوال الشمس قبل أن يصلي الظهر ، ويجعلها خطبتين ، ويجلس بينهما يفعل في خطبة الجمعة ، ويخطب إحداهن يوم النحر حيث يرمي جمرة العقبة ضحوة ، خطبة واحدة لا يجلس فيها وممن قال بهذا القول منهم : زفر بن الهذيل فيما ذكره لنا محمد بن العباس ، عن الجعفي ، عن الحسن ، عن زفر .

                  وكان بعضهم يقول : هي أربع خطب ، فخطبة منهن يوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر بمكة يأمرهم فيها بالغدو من الغد إلى منى . وخطبة أخرى يوم عرفة بعد الزوال ، وخطبة أخرى بعد الظهر يوم النحر ، يعلم الناس فيها النحر ، ويعلمهم أن من أراد التعجيل فذلك له ، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله عز وجل ، وطاعته واتباع أمره ومن قال ذلك منهم الشافعي ، ذكره لنا عنه المزني ولا نعلم لأهل العلم في الخطب في الحج قولا إلا هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها عنهم .

                  فأما الخطبة الأولى ، وهي المختلف في موضعها التي قال أهل القول الأول : إنها قبل التروية بيوم ، وقال أهل القول الثاني : إنها يوم التروية ضحى ، فإن الذين جعلوها يوم التروية ضحى شبهوه بخطبتي العيدين : الفطر ، والنحر ، وقالوا : وجدناها في الصدر الأول من النهار ، فجعلنا هذه كذلك .

                  وكان من الحجة عليهم لأهل القول الآخر ، أن خطبتي العيدين قد جعل لهما صلاتان ، ولم تجعل هذه كذلك ، إذ كانت لم تجعل لها صلاة قبلها ، ولا بعدها وكانت خطبة عرفة قد أجمع على أن وقتها بعد الزوال في الصدر الآخر من النهار ، وهي من خطب الحج ، فكان القياس على ذلك أن تكون هذه الخطبة التي هي من خطب الحج بخطبة عرفة التي هي من خطب الحج ، أشبه ، وأن يكون وقتها لوقتها ولما كانت الخطبة التي قبل عرفة في وقتها بخطبة عرفة أشبه في وقتها ، وانتفى أن تكون في الصدر الأول من النهار ، واستحال أن يجعل يوم التروية بعد الظهر ، إذ كان لا يتهيأ للإمام أن يخطبها بمكة ، وقد صلى صلاة الظهر بمنى ، ثبت أن القول فيها كما قال الآخرون الذين جعلوها قبل التروية بيوم ، وإذ كان [ ص: 123 ] لا قول فيها غير هذين القولين ، فلما انتفى أحدهما ثبت الآخر فهذا حكم الخطبة التي قبل عرفة من خطب الحج .

                  وأما الخطبة الثانية من خطب الحج فلا يختلفون أنها في يوم عرفة ، وأنها بعد الزوال كما ذكرنا فيها ، غير أنهم اختلفوا في تقديم الأذان عليها ، وفي تقديمها على الأذان ، وفي ابتداء الإمام إياها مع أحد المؤذنين في الأذان ، فأما أبو حنيفة فكان يقول في ذلك فيما حدثنا سليمان بن شعيب ، عن أبيه عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، قال : قلت له : أرأيت الإمام كيف يصلي الظهر والعصر بعرفة ؟ وكيف يخطب ؟ وكيف يصنع ؟ قال : يصعد المنبر ، ويؤذن المؤذن بالظهر والإمام على المنبر ، فإذا فرغ المؤذن قام الإمام ، فخطب ، فحمد الله عز وجل ، وأثنى عليه ، وهلل ، وكبر ، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعظ الناس ، وأمرهم بما يحق عليهم ، ونهاهم عما نهاهم الله عز وجل عنه ، ثم دعا الله بحاجته ، ثم نزل ، ثم أقام المؤذن ، ولم يحك في ذلك خلافا .

                  وأما جعفر بن أحمد بن الوليد ، فحدثنا عن بشر بن الوليد الكندي ، قال قال أبو يوسف : أرى للإمام أن يخطب في الحج ثلاث خطب : إحداهن قبل التروية بيوم بعد الظهر ، يخبرهم فيها بمناسك حجهم ، ويخبرهم عن فضل الحج ، ويأمرهم بالذي يلزمهم فيه ، وينهاهم عما لا ينبغي لهم فيه والخطبة يوم عرفة كان أبو حنيفة يقول : فيها يصعد الإمام يوم عرفة ، ثم يؤذن المؤذن كأذان الجمعة ، ويخطب فيها كخطبة الجمعة ، فإذا نزل عن المنبر أقام قال : وقال أبو يوسف : سمعت بعض مؤذني عرفة ، يقول : كنا نؤذن بعدما يخطب الإمام صدرا من خطبته ليس بين يديه .

                  وأما أحمد بن أبي عمران فذكر لنا هذه الرواية أيضا عن أبي يوسف ، قال : وقال أبو يوسف : سألت عن ذلك بعض مؤذني مكة ، فأخبروني أنهم أدركوا آباءهم على ذلك في تقدم الإمام في الخطبة المؤذنين في الآذان ، وأن آباءهم أخبروهم أنهم أدركوا الناس على ذلك وأن أبا يوسف رجع عن قول أبي حنيفة إلى هذا القول ، وأن أبا يوسف قد كان قال مرة : يبتدئ الإمام الخطبة والمؤذن الأذان معا كمثل ما حكينا عن الشافعي في ذلك .

                  [ ص: 124 ] ولو خلينا والقياس لكان القول في ذلك عندنا كما قال أبو حنيفة ، ولكانت خطبة يوم عرفة كخطبة الجمعة ، إذ فيها الجلوس كما في خطبة الجمعة ، ولكنا وجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خلاف هذا القول ، وليس لأحد التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك :

                  1368 - أن يحيى بن عثمان ، وروح بن الفرج ، جميعا قد حدثانا ، قالا : حدثنا يوسف بن عدي الكوفي ، قال حدثنا عبد الرحيم بن سليمان الرازي ، عن محمد بن علي وهو السلمي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين زالت الشمس ، فوقف بعرفة ، فقال : إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت قال : اللهم اشهد ، وقال مع ذلك قولا كثيرا ، وأذن المؤذن ، ثم أقام الظهر بعد الخطبة .

                  1369 - وأن الربيع بن سليمان المرادي ، حدثنا ، قال حدثنا أسد بن موسى ، قال حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، في حديثه في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثل هذا سواء ، غير أنه قال : ثم أذن بلال ، ثم أقام ، فصلى الظهر بعد الخطبة .

                  وحديث حاتم في ترك قوله : بعد الخطبة ، أشبه عندنا من حديث محمد بن علي في قوله : بعد الخطبة ، لأن العلماء قد أجمعوا على أن الأذان يكون بعد الفراغ من الخطبة ، ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه خطبة عرفة قد ذكرناها أيضا بما قد روي فيها ، وبما قد قاله أهل العلم فيها ، والله نسأله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد .

                  ثم اعتبرنا هذه الزيادة التي في حديث محمد بن علي ، عن جعفر بن محمد بن علي ، عن حاتم بن إسماعيل في حديثه ، عن جعفر بن محمد وهي قوله : " ثم أذن بلال ، ثم أقام [ ص: 125 ] الظهر بعد الخطبة ، فوجدناه محتملا لأن يكون أراد بالإقامة أنها كانت بعد الخطبة ، وإن كان الأذان قد كان في الخطبة ، فلم يخرج ذلك من قول أبي يوسف الذي ثبت عليه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية