الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  ولما اختلفوا في ذلك نظرنا في السنن المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل نجد فيها ما يدل على أحد المعنيين ؟ فوجدنا يونس بن عبد الأعلى ، :

                  1747 - قد حدثنا ، قال حدثنا عبد الله بن وهب ، أن مالك بن أنس ، أخبره ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن صاحب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انحرها ، ثم ألق قلائدها في دمها ، ثم خل بينها وبين الناس يأكلونها ، .

                  ووجدناها إسماعيل بن يحيى المزني ، .

                  1748 - قد حدثنا ، قال حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، قال حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : يا رسول الله ، ثم ذكر مثله .

                  فكان الذي في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ناجية بالتخلية بين الناس وبين ما عطب من بدنه بعد نحره إياه ، وإلقائه قلائده ، وضربه بها صفحته ليدل ذلك من رآه على أنه هدي مباح له أكله إن كان ذا حاجة وفقر إلى ذلك منه ، وليس في ذلك ما يدل على منع مهديه من الأكل منه لو كان حاضرا ، أو إباحته إياه فنظرنا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ذلك أن نجد فيه ما يدل على واحد من هذين المعنيين ، فوجدنا علي بن عبد الرحمن بن المغيرة : [ ص: 300 ] 1749 - قد حدثنا ، قال حدثنا يحيى بن معين ، قال حدثنا غندر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شيبان بن سلمة ، عن ابن عباس ، أن ذؤيبا أبا قبيصة بن ذؤيب ، حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه البدن ، فيقول : إن عطب منها شيء فخشيت عليه ، فانحرها ، واغمس نعلها في دمها ، واضرب به صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك .

                  ووجدنا محمد بن خزيمة :

                  1750 - قد حدثنا ، قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، قال حدثنا قتادة ، عن سنان بن سلمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث ببدنه مع ذؤيب الخزاعي ، ويأمره إذا عطب منها شيء ، أو خشي عليه ، أن ينحرها ، ويغمس نعلها في دمها ، ويضرب بها صفحتها ، ولا يأكل هو منها ، ولا أحد من أهله رفقته .

                  ووجدنا محمد بن خزيمة :

                  1751 - قد حدثنا ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، قال أخبرنا أبو التياح ، عن موسى بن سلمة ، قال : حججت أنا وسنان بن سلمة ، ومع سنان بدنة ، فأزحفت عليه ، فعيي بها ، فقلت : لئن قدمت مكة لأستحفين عن علم هذا فلما قدمنا قلت : انطلق بنا إلى ابن عباس فدخلنا عليه ، وعنده جارية ، فقلت : كانت معنا بدنة ، فأزحفت علينا ؟ قال ابن عباس : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبدن مع فلان ، فأمره فيها بأمره ، فلما فقأ رجع ، فقال : يا رسول الله ، ما أصنع بما أزحف على منها ؟ قال : انحرها ، واصبغ نعلها في دمها ، واضربه على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ، ولا أهل رفقتك .

                  [ ص: 301 ] ووجدنا إبراهيم بن أبي داود :

                  1752 - قد حدثنا ، قال حدثنا أبو معمر ، قال حدثنا عبد الوارث بن سعيد التنوري ، قال حدثنا أبو التياح ، عن موسى بن سلمة ، قال : انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين ، وانطلق سنان معه بدنة يسوقها ، فأزحفت عليه في الطريق ، فبعثني بشأنها ، فقلت : لئن قدمت البلد لأستحفيين عن ذلك فلما نزلنا البطحاء ، قال : انطلق إلى ابن عباس فانطلقنا ، فذكر له شأن بدنته ، فقال : على الخبير سقطت ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة مع رجل ، وأمره فيها ، فمضى ثم رجع ، فقال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما أبدع على منها ؟ قال : انحرها ، ثم اصبغ نعلها في دمها ، ثم اجعله على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ، ولا أحد من أهل رفقتك .

                  1753 - ووجدنا المزني ، قد حدثنا ، قال حدثنا الشافعي ، عن إسماعيل بن إبراهيم ، قال حدثنا أبو التياح ، عن موسى بن سلمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مع رجل بثماني عشرة بدنة ، فأمره فيها بأمره ، فانطلق ثم رجع إليه ، فقال : أرأيت إن أزحفت على شيء منها ؟ قال : انحرها ، ثم اصبغ نعلها في دمها ، ثم اجعلها على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ، ولا أحد من أهل رفقتك .

                  ففي هذه الآثار منع رسول الله صلى الله عليه وسلم رسوله ببدنه من أن يأكل منها شيئا كما في الحديث الأول الذي رواه عروة بن الزبير ، وفي هذا الحديث زيادة على ذلك ، وهي منعه أهل رفقته من الأكل منها أيضا فاحتمل أن يكون منعه ذؤيبا الخزاعي في هذا الحديث من أن يأكل منها شيئا ، لأنه كان غنيا عن ذلك ، وكذلك يحتمل أيضا منعه من كان معه من أهل رفقته من أن يأكلوا منها شيئا ، لأنهم كانوا أغنياء عن ذلك ، فمنعه ومنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك لغنائه وغنائهم الذي قد علمه منه [ ص: 302 ] ومنهم واحتمل أن يكون منعه من ذلك للحلف الذي كان بين خزاعة وبين بني هاشم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم على موالي بني هاشم من الصدقة مثل الذي حرم على بني هاشم ، وقال مع ذلك : إن موالي القوم من أنفسهم ، فجعل مواليهم في حرمة الصدقة عليهم كهم أنفسهم وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في كتاب الزكاة من كتبنا هذه في أحكام القرآن ، فأغنانا ذلك عن إعادته هاهنا وإذا كان مواليهم قد دخلوا في الذي حرم عليهم من الصدقات ، لأنهم من أنفسهم ، دخل حلفاؤهم أيضا في الذي حرم عليهم منها ، لأنهم أيضا من أنفسهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث فإن يونس ، .

                  1754 - قد حدثنا ، قال حدثنا ابن وهب ، قال : حدثني مسلم بن خالد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن عبيد بن رفاعة ، عن أبيه ، عن جده رفاعة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لعمر رضي الله عنه : يا عمر ، اجمع لي قومك ، فجمعهم ، ثم دخل عليه ، فقال : يا رسول الله ، قد جمعتهم ، فيدخلون عليك أو تخرج إليهم ؟ قال : بل أخرج عليهم فسمعت الأنصار بذلك والمهاجرون ، فقالوا : لقد جاء في قريش وحي ، فحضر الناظر والمستمع ما يقال لهم ، فقام بين أظهرهم ، فقال : هل فيكم غيركم ؟ قالوا : نعم ، حلفاؤنا ، وأبناء إخواننا ، وموالينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حلفاؤنا وأبناء إخواننا وموالينا منا ، أنتم تسمعون ، أوليائي يوم القيامة المتقون ، .

                  فإن كنتم أولئك فذاك وإلا فانصروا ، لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالأثقال ، فيعرض عنكم ثم نادى ، فرفع صوته : إن قريشا أهل إمامة ، من بغاهم العوائر كبه الله عز وجل لمنخره ، قالها ثلاثا .


                  أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قد جعل حلفاءهم منهم ، وأقامهم في ذلك كالمقام الذي أقام مواليهم فيه .

                  فكذلك يحتمل أيضا أن يكون جعلهم بالحلف في تحريم الصدقة عليهم كبني هاشم في تحريم الصدقة عليهم .

                  [ ص: 303 ] وعلى أي هذين المعنيين كان مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذؤيب الخزاعي فيما ذكرنا ، فلم يخرج ذلك من حرمت عليه الصدقة ، وفي تحريم ذلك على من حرمت عليه الصدقة وجوب حرمة ذلك على مهديه ، إذ كانت القرب المباح أكلها كالضحايا وما أشبهها ، غير ممنوع من تقرب بها من أكلها ، وغير ممنوع من سواهم من الأغنياء ، ومن بني هاشم من ذلك فدل منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذؤيبا من أكلها على حرمة أكلها على من لا تحل له الصدقة من مهديها ، ولا من غيرهم فثبت بذلك ما روينا فيه عن عبد الله بن عباس وبذلك كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي يقولون وحديث ذويب الذي ذكرنا فإنما دار على عبد الله بن عباس ، ففي قوله ذلك ، وفي قوله لسائله لما سأله عنه : على الخبير سقطت ، دليل على أنه قال ذلك بخبرته التي قد علمها أنه لا يأكل منه مهديه .

                  وقد ذهب قوم إلى أن منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذؤيبا وأهل رفقته من أكلها ، وأمره بالتخلية بين الناس سواهم وبينها ، أنه كره أن يعجلوا عليها فيقطعوها بعد نحرها قبل موتها ، فأراد نهيهم عنها أن تترك حتى تموت قبل أن تقطع .

                  فهذا تأويل عندنا غير صحيح ، لأنه غير موهوم على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ، وقد علموا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولا سيما من قد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع أمانة على رسالته ، وعلى سوق هديه ، وعلى نحره ، وعلى بلوغ محله ، وعلى موطن نحره ، وعلى موضع لحمه في المواضع التي يجب وضعه فيها ، ولو كان مباحا لهم أكلها بعد موتها لبين لهم ذلك ، ولم يمنعهم مما هو مباح لهم ولقد كان أمرهم بالصبر عليها إلى أن تموت ، لو جاز أن يكون تقطيعهم إياها قبل موتها موهوما منهم فيها قبل بلوغ محلها ، لكان موهوما منهم فيها بعد بلوغ محلها ، ولنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك نهيا واحدا وفي قصده بنهيهم عن ذلك إلى أحد المعنيين ، دليل على أنهم في المعنى الآخر بخلاف ذلك فثبت بما ذكرنا في تأويل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذؤيبا الخزاعي مما منعه ، واحد مما ذكرنا من التأويلين الأولين وفي ذلك ما يوجب مذهب عبد الله بن عباس فيه ، فيحتمل أن يكون سائر أهل الرفقة كانوا من بني هاشم كذؤيب الخزاعي منهم .

                  [ ص: 304 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية