الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  فإن قال قائل : فقد رويتم عن عبد الله بن عمر في هذا الباب ، أنه قال : الحج والعمرة واجبان ، فسوى بينهما في الوجوب ، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بني الإسلام على خمس ، فلم يكن ذلك عنده ينفي وجوب العمرة ؟

                  قيل له : ما في قول ابن عمر أنها واجبة ما يدل على أنها فريضة ، لأنه قد يجوز أن يكون أراد بقوله ذلك أنها واجبة على جميع المسلمين وجوبا على ما يقوم به الخاص منهم كوجوب الجهاد عند الذين يوجبونه ، فإن كثيرا من أهل العلم منهم أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن كانوا يقولون : الجهاد واجب على المسلمين جميعا إلا أن من قام به منهم أجزأ ذلك عن بقيتهم ، وسقط به الفرض عنهم ، كوجوب الصلوات على الجنائز ، وغسل الموتى ، فذلك واجب في عينه على جميع المسلمين ، غير أن من قام به منهم سقط بذلك الفرض عن بقيتهم وكذلك ما خاطب به عمر بن الخطاب الصبي بن معبد في قوله : وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي ، وترك عمر الإنكار عليه ، ليس لأن عمر جعل وجوب العمرة كوجوب الحج ، ولكن على أنه جعل ذلك واجبا كوجوب الجهاد على المسلمين ، والدليل على ذلك من مذهبه فيه ما :

                  1601 - قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن المنهال ، قال حدثنا شعبة ، قال : أخبرني سليمان الأعمش ، قال : سمعت إبراهيم ، يحدث عن عابس بن ربيعة ، عن عمر بن الخطاب ، قال : إذا حللتم السروج فشدوا الرحال للحج والعمرة ، فإنها أحد الجهادين .

                  أفلا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قرن العمرة بالحج ، وقال : فشدوا الرحال للحج والعمرة ، ثم قال : فإنها أحد الجهادين ، فشبهها خاصة بالجهاد الذي حكمه كما قد ذكرناه فيه من سقوط فرضه عن جميع الناس بقيام الخاص منهم .

                  1602 - وإذا إبراهيم بن مرزوق ، قد حدثنا ، قال حدثنا مكي بن إبراهيم ، قال حدثنا داود بن يزيد الأودي ، عن عامر ، عن جرير بن عبد الله ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : بني الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصيام رمضان .

                  [ ص: 216 ] 1603 - وإذا إبراهيم بن أبي داود ، قد حدثنا ، قال حدثنا علي بن عثمان اللاحقي ، قال حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال حدثنا الحجاج بن أرطاة ، قال حدثنا عثمان البجلي ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله ، قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له ، فسأله عن الإسلام ، فقال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره للناس ما تكره لنفسك .

                  1604 - وإذا يزيد بن سنان ، قد حدثنا ، قال حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، وإذا أبو أمية محمد بن إبراهيم ، قد حدثنا ، قال حدثنا أبو عاصم ، قالا : أخبرنا كهيمش ، عن ابن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن عبد الله بن عمر ، قال : حدثني عمر بن الخطاب ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل شديد سواد الشعر ، شديد بياض الثياب ، ما يرى عليه أثر السفر ، ولا نعرفه ، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبته إلى ركبته ، ووضع يده على فخذه ، ثم قال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام ؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت ؟ قال : نعم قال : صدقت .

                  1605 - وإذا يزيد بن سنان ، قد حدثنا ، قال حدثنا موسى بن إسماعيل المنقري ، قال حدثنا حماد بن زيد ، قال حدثنا مطر ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، قال حدثنا ابن عمر ، قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله ، غير أنه لم يقل في الحج : إن استطعت إليه سبيلا .

                  1606 - وإذا علي بن معبد ، قد حدثنا ، قال حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، قال حدثنا أبو سنان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن بريدة ، قال : كنت أنا ويحيى بن يعمر [ ص: 217 ] جالسين في المسجد ، فجاء ابن عمر ، فأنشأ يحدث ، قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل حسن الوجه ، حسن اللمة ، طيب الريح ، حسن الثياب ، فسلم ، فقال : أدنو منك يا رسول الله ؟ قال : ادن ، قال : حيث أسألك عن شرائع الإيمان قال : تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتقوم رمضان ، وتحج البيت ، وتغتسل من الجنابة . قال : صدقت فعجبنا من قوله : صدقت .

                  1607 - وإذا الحسن بن الحكم الحيري الكوفي ، قد حدثنا ، قال حدثنا عفان بن مسلم ، قال حدثنا سليمان بن المغيرة ، قال حدثنا ثابت ، عن انس بن مالك ، قال : كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قال : وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أجرأ على ذلك منا .

                  قال : فجاء رجل ، فقال : يا محمد ، أتانا رسولك ، فزعم أنك تزعم أن الله عز وجل أرسلك قال : صدق .

                  قال : وزعم أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال : صدق قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .

                  قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا قال : صدق .

                  قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .

                  قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا .

                  قال : صدق .

                  قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا ؟ .

                  قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا

                  قال : صدق .

                  قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمر بهذا ؟ قال : نعم .

                  قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال : صدق .

                  [ ص: 218 ] قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .

                  قال : فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا ، ولا أنقص منهن شيئا .

                  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لئن صدق ليدخلن الجنة .


                  1608 - وإذا يوسف بن يزيد ، قد حدثنا ، قال حدثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق ، قال حدثنا مبارك بن سعيد النوري ، قال حدثنا سعيد بن مسروق ، عن أيوب يعني : ابن عبد الله بن مكرر ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ بن جبل ، قال : قلت : يا رسول الله (ما) العمل الذي يدخلني الجنة ، وينجيني من النار ؟ فقال : لقد سألت عظيما ، وإنه ليسير : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان .

                  فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر في هذه الآثار بفرائض الإسلام التي بني عليها ، ولم يذكر في ذلك العمرة ، فدل ذلك أنها ليست فريضة كفرض الحج المذكور على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصلاة ، ومع صوم رمضان ، ومع ما ذكره في هذه الآثار التي ذكر فيها ما بني الإسلام عليه ، وما إذا أتى به الرجل ، وقصر عما سواه ، لم يمنعه ذلك من أن يكون قد أتى بما عليه من الفرائض ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال للرجل في حديث أنس بن مالك الذي روينا : لئن صدق ليدخلن الجنة .

                  فهذا حكم العمرة من طريق الآثار ، وليس فيما ذكرناه أيضا من قول زيد بن ثابت : نسكان أو صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت ، يريدها ويريد الحج ، ما يدل على وجوبها عنده ، لأنه لم يقل : نسكان واجبان ، ولا : صلاتان واجبتان .

                  فإن قال قائل : فما معنى قوله : نسكان ؟ قيل له : قد يكون النسك تطوعا ، وقد يكون فريضة ، فأما ما يكون تطوعا فما نسكه الناس مما يتقربون به إلى ربهم عز وجل من الهدي بالتطوع ، ومما سوى ذلك فإن قال : فقد قرن بينهما ، قال : الحج والعمرة نسكان أو صلاتان ، فدل ذلك على استواء حكمهما كان عنده ؟

                  [ ص: 219 ] قيل له : ما في ذلك دليل على استواء حكمهما كان عنده ، لأن الشيء قد يقرن بالشيء وحكمهما مختلف قال الله عز وجل ثناؤه : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ، والرفث يفسد الحج ، والجدال لا يفسده ، فقرن بين هذه الأشياء على اختلاف أحكامها في أنفسها والفرائض فإنما تعلم بالتوقيف عليها ، فلما لم يقف على فرض الله عز وجل العمرة على عباده لم يجعلها فريضة عليهم .

                  فقال قائل : القياس يوجب أنها فريضة قال : وذلك أنا لم نر شيئا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض ، من ذلك الحج ، يتطوع به ، وله أصل في الفرض ، ومن ذلك الصلاة ، يتطوع بها ، ولها أصل في الفرض ، ومن ذلك الصدقة ، يتطوع بها ، ولها أصل في الفرض ، ومن ذلك الصيام ، يتطوع به ، وله أصل في الفرض .

                  قال : فعقلنا بذلك أن العمرة لما كان يتطوع بها لم يكن ذلك إلا ولها أصل في الفرض .

                  فقيل لقائل هذا القول : فقد رأينا الاعتكاف يتطوع به ، ولا أصل له في الفرض ، ففسد بذلك عليه ما احتج به . وكان الذي جاء به مما ذكرناه عنه مقلوبا ، وإنما هو ما يتطوع به ، فقد يكون له أصل في الفرض ، وقد لا يكون له أصل في الفرض ، وما له أصل في الفرض فجائز أن يتطوع به كالصلاة وكالصدقة وكالحج ، فهذا الذي ذكرنا لا شيء فيه يوجب فرض العمرة .

                  وممن كان يذهب إلى أن العمرة من التطوع الذي لا ينبغي تركه ، أبو حنيفة ، ومالك بن أنس ، وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأما الشافعي فقد كان يذهب إلى أنها واجبة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية