الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وأما الارتياب المذكور في هذه الآية فقد اختلف أهل العلم فيه ما هو ، فقالت طائفة منهم : إذا طلقت المرأة فحاضت حيضة أو حيضتين ، ثم ارتفع حيضها مما لا يدرى ما رفعه عنها ، أنها تنتظر تسعة أشهر ، فإن لم تحض اعتدت ثلاثة أشهر ، فإن خرجت منهن قبل أن تحيض فقد خرجت من العدة ، وحلت للأزواج ، وجعلوا ارتفاع الحيض عنها هذه التسعة الأشهر ، هي الريبة التي جعل الله عز وجل العدة فيها ثلاثة أشهر وممن قال ذلك مالك ، كما حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال قال مالك : الأمر عندنا في المطلقة التي ترفعها حيضتها حين يطلقها زوجها ، أنها تنتظر تسعة أشهر ، فإن لم تحض اعتدت ثلاثة أشهر ، فإن حاضت قبل أن تستكمل ثلاثة أشهر استقبلت الحيض ، فإن مرت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر ، فإن حاضت الثانية قبل أن تستكمل الثلاثة الأشهر ، استقبلت الحيض ، فإن مرت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر ، فإن حاضت الثالثة كانت قد استكملت عدة الحيض ، وإن لم تحض استكملت الثلاثة الأشهر ، ثم حلت ، ولزوجها عليها في ذلك الرجعة قبل أن تحل إلا أن يكون بت طلاقها .

                  وقد روي عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ما يدل على هذا المذهب .

                  1815 - كما حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك ، عن يحيى بن سعيد ، ويزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال قال عمر بن الخطاب : أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ، ثم رفعتها حيضتها ، فإنها تنتظر [ ص: 332 ] تسعة أشهر ، فإن استبان بها حمل فذلك وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ، ثم حلت .

                  1816 - حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، أن يحيى بن سعيد ، حدثه عن سعيد بن المسيب ، قال : قضى عمر بن الخطاب أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ، ثم رفعتها حيضتها ، فإنها تنتظر تسعة أشهر ، فإن استبان بها حمل فذاك وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ، ثم حلت .

                  فقلت ليحيى : أتحتسب في تلك السنة بما خلا من حيضتها ؟ فقال : لا ، ولكنها تأتنف السنة حين يرقى الحيض .


                  1817 - حدثنا سليمان بن شعيب ، قال حدثنا الخصيب بن ناصح ، قال حدثنا همام بن يحيى ، قال : سئل قتادة عن امرأة حاضت حيضتين في شهرين ، ثم ارتفع حيضها فلم تحض سنة ، قال : زعم عكرمة ، أن ابن عباس : قال : تلك الريبة .

                  وقالت طائفة : الارتياب إنما هو ارتياب المخاطبين في العدة للآيسة المطلقة ما هي ، ثم أعلمهم عز وجل أنها ثلاثة أشهر ، فكان معنى قوله عز وجل عندهم : ( إن ارتبتم ) ، أي إن شككتم في الواجب عليهن من العدد ، إذ كن لا يحضن ، ما هو والدليل على ذلك أنها لو كانت ممن قد يئسن من المحيض ، وأحاطت علما أنها ممن لا يكون منه حيض ولا حمل ، أنه لم ترفع عنها تلك العدة ، وأن العدة عليها ، وإن كانت كذلك ، فدل ذلك على أن الريبة المذكورة في الآية ليست من قبل المرأة في حمل يكون بها على ما ذهب إليه غيرهم ، لأنه لو كان إنما هو لريبتها في نفسها في حمل بطنها ، لكان من يعلم أنها لا تحمل ، وممن قد أتت عليها تسعون سنة ، أو ممن لم تبلغ ، تسقط عنها العدة ففي إثباتهم إياها عليها ونزول [ ص: 333 ] القرآن فيها دليل على أن الريبة التي هي في هذه الآية إنما هي من المخاطبين في شكهم في نفس العدة ممن لا حيض لها ما هي وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والشافعي وفي الآية ما قد دل على ما ذهبوا إليه ، لأنه جل وعز قال : ( إن ارتبتم ) ولم يقل : ارتبتن .

                  وروي عن عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ما يدل على أن مذاهبهم في هذا خلاف المذهب الأول الذي عن عمر وابن عباس .

                  1818 - كما حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال أخبرني يونس ، وابن سمعان ، عن ابن شهاب ، أخبرهما أن رجلا من الأنصار يقال له : حبان بن منقذ كانت عنده هند ابنة ربيعة وامرأة من الأنصار ، فطلق الأنصارية وهي ترضع ابنه وهو صحيح ، فمكثت تسعة أشهر أو قريبا من ثمانية أشهر لا تحيض ، يمنعها الرضاع أن تحيض ، ثم مرض حبان ، فقيل له : إن امرأتك ترثك إن مت ، فقال لأهله : احملوني إلى عثمان فحملوه إليه ، فذكر له شأن امرأته ، وعنده علي وزيد ، فقال لهما عثمان : ماذا تريان ؟ فقالا : نرى أنها ترثه إن مات ، وهو يرثها إن ماتت ، فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ، وليست من الأبكار اللائي لم يحضن ، فهي عنده على حيضها ما كانت من قليل أو كثير ، وإنه لم يمنعها أن تحيض إلا الرضاع .

                  فرجع حبان إلى أهله فانتزع ابنه منها ، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة ، ثم حاضت أخرى في الهلال ، ثم اشتد بحبان وجعه قبل أن تحيض الثالثة ، ثم توفي حبان على رأس السنة أو قريبا منها ، فاختصت المرأتان إلى عثمان ، فشرك بينهما في الميراث ، وأمر الأنصارية أن تعتد عدة المتوفى عنها ، ثم قال للهاشمية : هذا رأي ابن عمك ، يعني عليا ، هو أشار علينا بهذا .

                  [ ص: 334 ] فقال قائل في هذا الحديث : إنه مات على رأس السنة أو قريبا من ذلك ، فقد يجوز أن تكون الحقيقة في ذلك موته قريبا من السنة ، وذلك يوجب لها الميراث ، إذ كانت لم تخرج من العدة ، لأنها إنما تخرج منها لتمام السنة .

                  قيل له : فقد روي هذا الحديث من غير هذا الطريق بتحقيق مضي السنة بغير شك كما شك ابن شهاب .

                  1819 - كما حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا ، أخبره ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، أنه قال : كان عند جده حبان امرأتان : هاشمية ، وأنصارية ، فطلق الأنصارية وهي ترضع ، فمرت به سنة ، ثم هلك ولم تحض ، فقالت : أنا أرثه ولم أحض فاختصمتا إلى عثمان ، فقضى لها بالميراث ، فلامت الهاشمية عثمان ، فقال لهذا : هذا عمل ابن عمك ، هو أشار علينا بهذا ، يعني عليا .

                  ففي هذا قول عثمان وزيد في الحديث الأول ، أن عليا وزيدا قالا لعثمان : إنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ، وليست من الأبكار اللائي لم يحضن ، فهي عنده على حيضها ما كانت من قليل أو كثير فدل ذلك أن الريبة التي في الآية التي تلونا لم يكن عندهما ارتياب المرأة بنفسها ، ولكنها ارتياب الشاكين في ذلك من المخاطبين بها ، وأنها لا تكون موئسا حتى تكون من القواعد اللائي لا يرجى منهن الحيض ، وتابعهما عثمان على ذلك فقضى به وأما ابن مسعود فروي عنه في ذلك ما :

                  1820 - حثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا بشر بن عمر ، قال حدثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، قال : سألت إبراهيم ، فحدثني عن علقمة ، أنه طلق امرأة تطليقة أو تطليقتين ، فحاضت حيضة أو حيضتين ، ثم مكثت سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا ، فورثه عبد الله منها ، وقال : حبس الله ميراثها ، .

                  1821 - حدثنا عبد الملك بن مروان ، قال حدثنا شجاع بن الوليد ، عن [ ص: 335 ] سليمان بن مهران ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، مثله إلا أنه قال : ستة عشر شهرا ، ولم يشك .

                  فهذا عبد الله لم يجعلها بمضي السنة خارجة من العدة ، فدل ذلك أن مذهبه في ذلك كمذهب عثمان ، وعلي ، وزيد .

                  ولما اختلفوا في ذلك كان الأولى بنا فيه حمل الآية على ظاهرها ، وأن لا يلحق بظاهرها ما لا يقوم لنا به الحجة أنه في باطنها وكان الذين يذهبون إلى القول الأول من القولين اللذين ذكرنا ، قد وقتوا الإياس تسعة أشهر ، ولم نجد ذلك منصوصا في كتاب ، ولا سنة ، ولا مجمعا عليه ، فبطل وجوب قبول ذلك ولما بطل وجوب قبول ذلك ثبت القول الآخر الذي لا توقيت فيه ، ولا خروج فيه عن الآية في ذلك ، ولا دعوى مع أهله لناظر فيها ، لا حجة له فيه توجب ذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية