الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  [ ص: 165 ] ألا ترى أن رجلا لو ضعف عن الوقوف بعرفة ، فترك ذلك لضعفه عنه حتى طلع الفجر من يوم النحر ، أن حجه قد فسد ، وأنه لو وقف بها بعد الزوال ، ثم نفر منها قبل غروب الشمس ؛ إن أهل العلم مجمعون على أنه غير معفو عنه بالضعف الذي به ، وإن طائفة منهم تقول : عليه دم في تركه بقية الوقوف بعرفة .

                  وطائفة منهم ، تقول : قد فسد حجه ومزدلفة فلم تجعل كذلك ، لأن الذين أوجبوا الوقوف بها قد رخصوا لمن وقف بها في النفور عنها بعد وقوفه بها قبل فراغ وقتها ، وهو قبل طلوع الشمس من يوم النحر للعذر وللضعف فلما ثبت أن عرفة لا يسقط فرض الوقوف بها للعذر ، ولا يحل النفور منها قبل أوان وقته بالعذر ، وكانت مزدلفة مما يباح ذلك منها بالعذر ، ثبت بذلك أن حكم مزدلفة ليس في حكم عرفة ، وإن الذي لا يسقط فرضه بالعذر هو الواجب ، وأن الذي يسقط بالعذر هو الذي ليس بواجب .

                  ألا ترى أنا قد رأينا طواف الحج الواجب فيه الذي لا يجزئ الحج إلا بإصابته ، ولا تجزئ منه الدماء ، وهو طواف يوم النحر ، لا يعذر أحد من الرجال في تركه بضعف ولا بغيره ، ولا يعذر أحد من النساء في تركه لحيض ولا لغيره ، وإن طواف الصدر ليس كذلك لأنه لو نفر رجل ولم يطفه لا لعذر ، أو لعذر ، كان عليه دم ، وأجزأه حجه ، ولو نفرت امرأة حائض ولم تطفه كانت غير مسيئة في ذلك ، بل هي في رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لها في تركها فيه فكان ما وصفنا دليلا على الطواف الواجب الذي لا بد منه ، وعلى الطواف الذي ليس بواجب ، والذي منه بد فكان كذلك الوقوف بعرفة وبمزدلفة ، ما كان منه لا يقسط بعذر ، ولا يرخص في ترك استتمامه للعذر ، هو الفرض ، وما يسقط بالعذر ، ويرخص في ترك استتمامه للعذر ليس بفرض فثبت بذلك ما قال الذين ذهبوا في حكم الوقوف بمزدلفة إلى ما ذكرناه عن أبي حنيفة ، ومن سميناه معه في ذلك ، وإن من تركه لغير عذر أجزأه منه الدم ، ومن تركه لعذر فلا شيء عليه وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر مزدلفة وفي الوقوف بها ما :

                  1461 - قد حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة ، قال حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال حدثنا سفيان بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، عن زيد بن [ ص: 166 ] علي ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى جمعا صلى بهم الصلاتين جميعا ، فلما أصبح أتى قزح ، فوقف عليه ، وقال : هذا قزح ، وهذا الموقف ، وجمع كلها موقف ، ثم أفاض .

                  1462 - وما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال أخبرنا عبد الله بن وهب ، قال : حدثني أسامة بن زيد الليثي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل المزدلفة موقف .

                  1463 - وما قد حدثنا محمد بن عمرو بن تمام الكلبي ، قال حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : حدثني ميمون بن يحيى ، عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، قال : سمعت أسامة بن زيد ، يقول : سمعت عبد الله بن أبي حسين ، يخبر عن عطاء بن أبي رباح ، وعطاء جالس يسمع ، قال قال عطاء سمعت جابر بن عبد الله السلمي ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل المزدلفة موقف .

                  ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرنا من مزدلفة شيئا ، وأجمع أهل العلم جميعا أن بطن محسر خارج من ذلك ، وأنه في حكم المستثنى من مزدلفة ، وإن كان ذلك الاستثناء غير مذكور في هذه الآثار ، وأن ذلك كالسلم المستثنى باتفاقهم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ، وإن كان ذلك الاستثناء لم يذكر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ، وأنه ينبغي للواقفين بمزدلفة أن يرتفعوا عنه إلى غيره منها وممن قال ذلك منهم أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن فيما حدثنا سليمان بن شعيب ، عن أبيه ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، وعن أبيه ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، وعن أبيه ، عن محمد ، بذلك وممن قال ذلك منهم أيضا مالك بن أنس ، ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا فيما :

                  [ ص: 167 ] 1464 - حدثنا يونس ، قال أخبرنا عبد الله بن وهب ، أن مالكا ، حدثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : مزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسر .

                  وقد روي هذا الاستثناء من مزدلفة عن عبد الله بن عباس ، وعن ابن الزبير إما عبد الله ، وإما عروة .

                  1465 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، قال حدثنا عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : ارتفعوا عن بطن محسر .

                  1466 - حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا ، حدثه عن هشام بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، أنه قال : تعلمون أن المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر .

                  1467 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، قال أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه قال : جمع كلها موقف إلا بطن محسر .

                  وهذا مما لا يقال بالرأي ، ولا بالاستخراج ، ولا بالقياس ، وإنما يقال بالتوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقول ابن عباس ذلك دليل على أخذه إياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعا كما :

                  1468 - قد حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي ، قال حدثنا سفيان بن عيينة ، عن زياد بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي معبد ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ارتفعوا عن محسر ، وعليكم بحصى الخذف .

                  1469 - وكما قد حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، قال حدثنا أبو الأشعث العجلي ، قال حدثنا ابن عيينة ، عن زياد بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي معبد ، [ ص: 168 ] عن ابن عباس ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسر .

                  وينبغي للإمام أن يصلي في مزدلفة صلاة الصبح يوم النحر عند طلوع الفجر ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها يومئذ كذلك كما :

                  1470 - قد حدثنا حسين بن نصر ، قال حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة قط في غير ميقاتها إلا أنه جمع بين الصلاتين بجمع ، وصلى الفجر يومئذ لغير ميقاتها .

                  1471 - وكما قد حدثنا يزيد بن سنان ، قال حدثنا وهب بن جرير ، وحبان بن هلال ، وشيبان بن فروخ ، قالوا : حدثنا جرير بن حازم - واللفظ لوهب - قال : سمعت أبا إسحاق ، يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : حججنا مع عبد الله في إمارة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فبتنا بجمع ، فلما رأينا أول الفجر قام عبد الله ، فصلى الصبح ، فقلنا له : إن هذه الصلاة ما كنت تصليها في هذه الساعة .

                  قال : وكان عبد الله يسفر بصلاة الصبح ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هذه الصلاة في هذا اليوم وفي هذه الساعة ثم وقف حتى إذا كان بعد انصراف الرجل المسفر بصلاته ، قال : لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب .

                  فأفاض عثمان حينئذ .


                  1472 - وكما قد حدثنا يزيد بن سنان ، قال حدثنا عمرو بن خالد ، قال حدثنا زهير بن معاوية ، قال حدثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : حج عبد [ ص: 169 ] الله ، فأمرني علقمة أن ألزمه ، فلما طلع الفجر من يوم النحر ، قال : أقم قلت : يا أبا عبد الرحمن ، إن هذه الساعة ما رأيتك تصلي فيها قط قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان في هذا اليوم قال عبد الله : هما صلاتان تحولان عن وقتهما : صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة ، وصلاة الغداة حين يبزغ الفجر ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك .

                  قال زهير : قال إسحاق : فسألته متى أفاض من المشعر ؟ قال : انصراف المسفرين .

                  1473 - وكما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال حدثنا أسد بن موسى ، قال حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، في حديثه عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع بالمزدلفة حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بنداء وإقامة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، فرقى عليه ، فحمد الله عز وجل ، وهلله ، وكبره ، فلم يزل واقفا - أظنه قال - حتى أسفر جدا ، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس .

                  وهكذا يقول أهل العلم جميعا ، لا نعلمهم يختلفون في ذلك ، وليس قول جابر بن عبد الله : وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم بمزدلفة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، بموجب أن المشعر الحرام ليس بمزدلفة ، بل هو مزدلفة ، ومعنى قول جابر هذا إنما هو على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك موضعا من مزدلفة ، ثم ركب منه حتى أتى موضعا آخر منها ، وهو المشعر .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية