الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  تأويل قوله تعالى : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) الآية .

                  قال الله عز وجل : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) إلى قوله عز وجل ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) .

                  [ ص: 63 ] فكان الأغلب في هذا الطواف المذكور في هذه الآية أنه طواف يوم النحر ، لأنه قال عز وجل : ( ثم ليقضوا تفثهم ) ، وذلك لا يكون قبل يوم النحر ، ثم قال عز وجل : ( وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ) وقد يجوز أن يكون أراد بقوله : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) ، الطواف الذي بينه لنا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأفعاله ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة محرما بالحج طاف بالبيت حينئذ ، وروي عنه في ذلك ما :

                  1243 - قد حدثنا الربيع المرادي ، قال حدثنا أسد ، قال حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني ، قال حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : دخلنا على جابر ، فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجج ، ثم أذن في الناس بالعاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ، فقدم المدينة بشر كثير يلتمسون أن يأتموا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا حتى أتينا ذا الحليفة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به على البيداء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، عليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، ما عمل من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد ، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، ولم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته .

                  قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة حتى إذا كنا على آخر طواف على المروة ، قال : إنني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان ليس معه هدي فليحلل ، وليجعلها عمرة ، فحل الناس وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي .


                  [ ص: 64 ] 1244 - وما قد حدثنا محمد بن خذيمة وفهد بن سليمان ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث بن سعد ، عن ابن الهاد ، عن جعفر بن محمد ، فذكر بإسناده مثله .

                  1245 - وما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال حدثنا أسد ، قال حدثنا أبو عوانة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : خرجنا ، ولا نرى إلا أنه الحج ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة طاف ولم يحل ، وكان معه الهدي ، فطاف من معه من نسائه وأصحابه ، وحل منهم من لم يكن معه الهدي .

                  1246 - وما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن المنهال ، قال حدثنا يزيد بن زريع ، قال حدثنا داود ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، قال : خرجنا من المدينة نصرخ بالحج صراخا ، فلما قدمنا يعني مكة طفنا ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي ، فلما كان عشية عرفة أهللنا بالحج .

                  قال أبو جعفر : ففي هذه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن أصحابه ، أنهم طافوا بحجهم بعد دخولهم مكة ، وقبل وقوفهم بعرفة وهكذا يقول أهل العلم جميعا غير طائفة منهم ، فإنها كانت تذهب إلى أن المحرم بالحج لا ينبغي له أن يطوف بالبيت لحجه إلا بعد وقوفه بعرفة ، وتقول : إن طاف بالبيت قبل وقوفه بعرفة خرج بذلك من حجته ، وحل به منها كما حل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طافوا بالبيت لحجتهم قبل وقوفهم بعرفة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك على ما ذكرنا في هذا الآثار التي قد رويناها في هذا الباب والروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في طوافه بالبيت كثيرة ، فاخترنا منها على هذه الآثار التي ذكرناها ، وتركنا ما [ ص: 65 ] سواها منها ، لأنه لا بيان فيها لشيء مما أردنا ، ولأن في بعضها ذكر طواف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول منها من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ، غير مذكور فيها ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم قبل وقوفه بعرفة أو بعد وقوفه بها .

                  ومنها ما قد ذكر فيه أن ذلك الطواف كان منه صلى الله عليه وسلم عند قدومه مكة ، وغير مبين فيه أن إحرامه ذلك صلى الله عليه وسلم كان حجا أو كان عمرة ؟ وقد كان الذين يذهبون إلى تأجيل الطواف للحج حتى يكون قبله الوقوف بعرفة ، ويقولون : إن طاف بالبيت للحج قبل وقوفه بعرفة كان في حكم الخارج من الحج ، وداخل في حكم العمرة ، يحتجون في ذلك بما قد روي عن ابن عباس فيه .

                  1247 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم العبدي ، قال حدثنا ابن جريج ، قال : وأخبرنا عطاء ، أن ابن عباس ، كان يقول : لا يطوف أحد بالبيت حاج ولا غيره إلا حل قلت له : من أين كان ابن عباس يأخذ ذلك ؟ قال : من قبل قول الله عز وجل : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) قلت : فإنما ذلك بعد المعرف قال : كان ابن عباس يراه قبل المعرف وبعده وكان ابن عباس يأخذها من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها في حجة الوداع ، قالها لي غير مرة .

                  1248 - حدثنا سليمان بن شعيب الكسائي ، قال حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال حدثنا شعبة ، قال : أخبرني قتادة ، قال : سمعت أبا حيان الرقاشي ، أن رجلا قال لابن عباس : يا أبا عباس ما هذه الفتيا التي قد تقشعت ، أن من طاف بالبيت فقد حل ؟ قال : سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم .

                  1249 - حدثنا ربيع المرادي ، قال حدثنا أسد ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، أن عروة ، قال لابن عباس : أضللت الناس يا ابن عباس ، قال : [ ص: 66 ] وما ذلك يا عروة ؟ قال : تفتى الناس أنهم إذا طافوا بالبيت فقد حلوا ، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجيئان ملبين بالحج فلا يزالان محرمين إلى يوم النحر ؟ فقال ابن عباس : بهذا ضللتم ، أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحدثوني عن أبي بكر وعمر ؟ ، فقال عروة : إن أبا بكر وعمر ، كانا أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منك .

                  وقد اختلف أهل العلم في إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان قدم مكة وهو عليه في إحرام أصحابه معه حينئذ ، فقال ابن عباس ، وجابر ، وأبو سعيد : كان بالحج خالصا ، على ما قد روينا عنهم في هذه الآثار .

                  وقالت عائشة ، فيما رواه الأسود عنها في حديثها الذي ذكرناه عنها في هذا الباب خرجنا ، ولا نرى إلا أنه الحج ، فكأنها لم تحقق في ذلك ما كان الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم ، غير أنه قد روى عنها غير الأسود في ذلك ما سنذكره فيما بعد من هذا الباب إن شاء الله .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية