الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وقد روي عن فاطمة نفسها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان أمرها بالنقلة لمعنى خافه عليها من زوجها .

                  [ ص: 357 ] 1878 - كما حدثنا أبو شعيب صالح بن شعيب بن أبان البصري ، قال حدثنا محمد بن المثنى الزمن ، قال حدثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن فاطمة ابنة قيس ، قالت : قلت : يا رسول الله إن زوجي طلقني ، وإنه يريد أن يقتحم علي ، فقال : انتقلي عنه .

                  1879 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حفص ، قال حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، أن فاطمة ، قالت : يا رسول الله ، إن زوجي طلقني ثلاثا ، أخاف أن يقتحم علي ، فأمرها بالتحويل .

                  فهذا حديث فاطمة الذي روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائه عليها أن لا نفقة لها ولا سكنى في عدتها من زوجها المطلق لها الطلاق البات الذي ذكرنا ، لا نعلمه روي عنها من وجه إلا وقد دخل في الوجوه التي ذكرناها في هذا الباب وقد أنكر ذلك عليها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنكره عليها ممن ذكرنا ، فمنهم من رد ذلك إلى أنه كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلة كانت فيها خاصة ، ومنهم من رد ذلك إلى خوفه عليها الوهم ، ومنهم من رد ذلك لخوفه عليها الكذب ، ولم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرها ، ولا المنكرين لحديثها هذا ، قبله ، ولا عمل به ، ولا حمل الناس عليه ، ولا أفتاهم به غير شيء ذكر فيه عن ابن عباس .

                  1880 - كما حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال حدثنا سعيد بن منصور ، قال حدثنا هشيم ، قال أخبرنا الحجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه كان يقول في المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها : لا نفقة لهما ، وتعتدان حيث شاءتا .

                  وقد روينا فيما تقدم في هذا الباب عن عبد الواحد بن زياد ، عن الحجاج بن أرطاة ، [ ص: 358 ] عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة حين طلقها زوجها ثلاثا .

                  فصار ما روي عن ابن عباس من هذين الحديثين إنما يدور على الحجاج ، ومذهب أهل الإسناد فيما أرسل الحجاج ولم يذكر فيه سماعا ما لا خفاء به على أهل العلم بهذا المعنى .

                  فإن احتج محتج لما روت فاطمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصتها التي رويناها عنها في هذا الباب ، وأنه ليس فيما روت من ذلك خلاف لكتاب الله عز وجل بحجة فاطمة التي احتجت بها في حديث عبيد الله بن عبد الله الذي ذكرناه .

                  قيل له : أما ما ذكرت من قوله : أن القرآن إنما نزل فيمن لم يبت طلاقها ، لا فيمن بت طلاقه ، لأن الله عز وجل قال : ( فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم ) إلى قوله عز وجل : ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) ، وذلك لا يكون في المطلقات المبتوتات ، وإنما يكون فيمن سواهن من المطلقات اللاتي عليهن الرجعة لمن طلقهن ، فإن الحجة في ذلك أن الآية على النساء جميعا المدخول بهن ذوات العدد ، قال الله عز وجل : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) إلى قوله : ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) ، فأمر عز وجل بطلاقهن للعدة ، وعطف ما بعد ذلك من أحكامهن على العدة ، وكانت المرأة إذا طلقها زوجها طلقتين للعدة ، إحداهما بعد الأخرى ، كان لها عليه السكنى والنفقة ، لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك جميعا ، وكانت الرجعة عليها لمطلقها ، ثم إذا أراد أن يطلقها الثالثة التي لا رجعة له عليها بعدها ، كان طلاقه إياها للعدة في طهر لم يمسها فيه ، على مثل ما كان عليه حكمه في طلاقه إياها كل واحدة من التطليقتين الأوليين ، فإذا لم تخرج الطلقة الثالثة من أن توقع للعدة في طهر لا مماسة فيه ، وكان عليها أن تعتد للتطليقة الثالثة مثل ما تعتد لكل واحدة من التطليقتين الأوليين من الشهور أو الحيض على ما بين الله عز وجل في ذلك في هذه السورة ، وفيما سواها من القرآن ، لم تخرج هذه التطليقة أيضا مما كان لها من السكنى والنفقة كما لم تخرج مما كان عليها ، ولها سائر [ ص: 359 ] أحكام المطلقات الطلاق المملوك فيه الرجعة عليهن ، وثبت بذلك أن المطلقات جميعا ذوات العدد مرادات بجميع ما في هذه السورة غير أنه عز وجل ذكر المراجعة لمن عليه المراجعة منهن ، لا لمن سواهن ممن لا رجعة عليه من سائر المطلقات .

                  ولما انتفى أن يكون حديث فاطمة حجة لما ذكرنا يجب الأخذ بها وحمل سائر المطلقات المعتدات عليها ، رجعنا إلى أقوال أهل العلم في ذلك ، فوجدناهم على ثلاثة أقوال :

                  فطائفة تقول : لا نفقة لها ولا سكنى ، وتحتج لما تقول بحديث فاطمة الذي رويناه في هذا الباب ، وقد ثبت انتفاء ما في حديث فاطمة من أن يكون حجة لهذا المعنى .

                  وطائفة تقول : لها السكنى والنفقة ، منهم أبو حنيفة ، وسفيان ، وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وكثير من أهل العلم سواهم ، ويحتجون في ذلك بما روينا عن عمر ، وابن مسعود من آرائهما ، وما رواه عمر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرنا .

                  وطائفة تقول : لها السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا ، فتكون لها النفقة والسكنى حتى تضع حملها ، ويحتجون في إيجابهم السكنى بما يقول الله عز وجل : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) ، وهذا على العموم ، ويحتجون في وجوب النفقة لها بقوله عز وجل : ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) وممن قال ذلك مالك ، والشافعي ، وكثير من أهل الحجاز ، فذهبوا هذا المذهب .

                  حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، عن مالك ، بقوله الذي ذكرنا عنه في هذا وذكر الشافعي فيما ذكره لنا الربيع عنه هذا وإن أصل حديث فاطمة الذي ذكرنا يرجع إلى المعنى الذي كان يذهب إليه في المطلقات المبتوتات غير الحوامل ، أنه لا نفقة لهن في عددهن على من طلقهن ، وإن لهن السكنى عليهم إلى انقضاء عددهن ، وقال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة في حديثها الذي ذكرناه ، يعني حديث مالك ، عن عبد الله [ ص: 360 ] بن يزيد ، عن أبي سلمة ، عن فاطمة : لا نفقة لك أي لأنك غير حامل ، وانتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم لبذائك الذي صرت به من أهل الفاحشة التي أباح الله عز وجل بها إخراج المطلقات اللاتي يكون فيهن .

                  قال : وإنما جاء تخليط هذا الحديث عن فاطمة بما رواه الشعبي لأنه روى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : لا نفقة لك ولا سكنى .

                  وأما ما روى عنها الحجازيون أصحابنا فموافق لقولنا ، وغير خارج عن مذهبنا الذي ذكرنا ، يعني أن لها السكنى ، ولا نفقة .

                  قال أحمد : ولم يكن للقول عندنا في ذلك كما ذكر ، ولا كان أصل حديث فاطمة إلا كما رواه الشعبي عنها لإتقانه ، ولضبطه ، ولفضل حفظه ، ولتقدمه في العلم ، ولعلو مرتبته فيه ، ولأنه قد وافقه على ذلك غير واحد من أهل الحجاز ، منهم عبيد الله بن عبد الله ، وقبيصة ، وابن أبي الجهم ، ومحمد بن عبد الرحمن ، وأبو سلمة فقد وافقه على ذلك لأن مالكا ، وإن كان لم يرو ذلك عن عبد الله ، عن أبي سلمة إلا كما سقط إليه وكما ذكرناه عنه ، فإن الليث قد رواه عن عبد الله عن أبي سلمة كما رواه الشعبي عن فاطمة سواء ووافقه على ذلك يحيى بن أبي كثير مع جلالته وعلمه ، وفضل حفظه ، وإتقانه ، وعلو مرتبته حتى لقد قال أيوب السختياني فيه ما :

                  حدثنا ابن أبي داود ، قال حدثنا المنقري ، قال حدثنا وهيب بن خالد ، قال : سمعت أيوب ، يقول : ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير ، فقدمه على الناس جميعا .

                  ووافق يحيى على ذلك الحارث بن عبد الرحمن خال ابن أبي ذئب ، وهو رجل من أهل العلم صحيح الرواية ، فروى عن أبي سلمة ، عن فاطمة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب مثل الذي رواه الشعبي ، عن فاطمة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه .

                  [ ص: 361 ] فأما ما ذهب إليه الشافعي من إبطال النفقة على فاطمة لأنها كانت غير ذات حمل ، فإنما ذلك تأويل تأوله في حديثها ، ولم يجده منصوصا وقد تأوله غيره على غير ما تأوله عليه ، فتأوله على أنها إنما منعت النفقة بالبذاء الذي كان فيها الواجب به عليها الخروج من منزلها ، فصار ذلك الخروج الذي لزمها بالفعل الذي كان منها نشوزا ، فحرمت النفقة بذلك النشوز كما يقول في المطلقة المستحقة للنفقة إذا نشزت بالخروج من منزل زوجها ، لم يكن لها عليه نفقة ما كانت كذلك ، فلم يكن أحد التأويلين اللذين ذكرناهما في حديث فاطمة أولى من الآخر به .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية