الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وقال بعضهم : من رمى في يوم النحر حل له كل شيء كان حراما بالحج إلا النساء ثم كان كذلك إن طاف بالبيت في بقية يوم النحر ، وإن لم يطف بالبيت حتى يخرج عنه يوم النحر عاد على حرمته الأولى ، وحرم عليه ما كان حل له برمية الجمرة وبحلقه رأسه ، وكان ما احتج به أهل هذا القول لقولهم هذا ما قد روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  1558 - حدثنا عبيد بن محمد البزاز ، قال حدثنا بكر بن خلف ، قال حدثنا ابن أبي عدي ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة ، عن أبيه ، وعن أمه زينب ابنة أبي سلمة ، عن أم سلمة رضي الله عنها .

                  حدثناه جميعا عنها ، قالت : كانت ليلتي التي صير إلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النحر ، فصار إلى ، قالت : فدخل علىوهب بن زمعة ومعه رجل من آل أبي أمية متقمصين ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب : هل أفضت بعد ؟ [ ص: 198 ] قال : لا والله يا رسول الله قال : انزع عنك القميص ، فنزعه من رأسه ، ثم قال : ولم يا رسول الله ؟ قال : إن هذا يوم رخص لكم إذا رميتم الجمرة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء ، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا بالبيت صرتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة .

                  قال أبو عبيدة : حدثتني أم قيس ابنة محصن ، وكانت جارة لهم ، قالت : خرج من عندي عكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمصين عشية يوم النحر ، ثم رجعوا إلى عشاء وقمصهم على أيديهم يحملونها ، قالت : فقلت : أي عكاشة ، ما لكم خرجتم متقمصين ورجعتم وقمصكم على أيديكم تحملونها ؟ قال : خير يا أم قيس ، كان هذا يوما رخص لنا فيه ، إذا رمينا الجمرة حل لنا كل شيء حرمنا منه إلا ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت ، فإذا أمسينا ولم نطف ، صرنا حرما كهيئتنا قبل أن نرمي الجمرة ، فأمسينا ولم نطف ، فصرنا حرما كما ترين .

                  1559 - حدثنا ابن أبي داود ، قال حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال حدثنا ابن لهيعة ، قال حدثنا أبو الأسود ، عن عروة ، عن جدامة ابنة وهب وهي أخت عكاشة بن وهب ، أن عكاشة بن وهب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخا لها آخر ، جاءا لها حين غابت الشمس يوم النحر ، فألقيا قميصيهما ، فقالت : ما لكما ؟ فقالا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من لم يكن أفاض منكما فليلق ثيابه وكانوا قد تطيبوا ولبسوا الثياب .

                  ولما اختلفوا في هذا الباب كما ذكرنا فيما اختلفوا فيه منه ، فرأينا الرجل إذا أحرم بالحج حرم عليه بإحرامه أشياء ، منها حلق رأسه ، فلا يزال كذلك حتى يرمي جمرة العقبة [ ص: 199 ] يوم النحر ، فإذا رماها حل له أن يحلق فدل إباحة الحلق له أن الحرمة التي كانت منعته من الحلق قد ذهبت قبل ذلك ، وأنه حلق حين حلق وهو حلال كما قال ابن عباس ، لا كما قال الآخرون ، وهذا قول قد روي عن أبي يوسف ، وإن كان المشهور عنه خلافه .

                  فإن قال قائل : لو كان كما ذكرت لكان لا معنى للحلق إذا كان الحاج قد صار حلالا ، برميه جمرة العقبة وإن لم يحلق ، إلا من النساء خاصة ولما كان للحلق الذي يفعله فضل على التقصير الذي يفعله مثله ، كما لا يفضل الحلال إذا حلق غيره من المحلين إذا قصروا .

                  قيل له : بل للحلق في هذا أكثر معنى ، وهو أفضل من التقصير للحاج بعد رميه جمرة العقبة ، لأنهما سبب من أسباب النسك يفعلان بعد الخروج من الإحرام وزوال الحرمة وارتفاعها ، لأنه قد رأينا بعض أسباب الحج يفعل بعد الخروج من الحج ، والدخول في الإحلال ، وهو طواف الصدر ، يفعله الحاج بعد خروجه من إحرامه ، لأنه شبيه لما كان فيه من إحرامه ، وإن كان تركه كان عليه الدم في تركه ، ولم يجعل في حكم الطواف الذي تركه الحلال عند خروجه من مكة ، ولم يكن محرما قبل ذلك فثبت بما ذكرنا ما روينا عن ابن عباس في هذا المعنى .

                  ثم رجعنا إلى قول الذين قالوا : يحل له إذا رمى وحلق كل شيء إلا النساء والطيب ، وإلى قول الذين قالوا : يحل له كل شيء إلا النساء خاصة ، فوجدناهم لا يختلفون أنه بعد رميه وحلقه في بقية يوم النحر حلال له اللباس ، وحرام عليه النساء ، وإنما يختلفون في حرمة الطيب ، هل هي باقية عليه كما كانت أو مرتفعة عنه ؟ فأردنا أن ننظر في حكم الطيب ، هل يشبه حكم النساء فيقطعه عليه ؟ أو يشبه حكم اللباس فيقطعه عليه ؟ فوجدنا الحاج إذا جامع قبل وقوفه بعرفة كان عليه دم ، وكان حجه فاسدا ، وكان عليه قضاء الحج من قابل ، وإذا لبس حينئذ كان عليه دم ، ولم يكن حجه فاسدا ، وإذا تطيب حينئذ كان عليه دم ، ولم يكن حجه فاسدا ، فثبت بذلك أن حكم الطيب بحكم اللباس فيما ذكرنا أشبه منه بحكم النساء ، فثبت بذلك قول الذين قالوا : يحل له مع اللباس الطيب كما حل له اللباس .

                  [ ص: 200 ] ثم رجعنا إلى قول الذين قالوا : إذا رمى الجمرة حل له كل شيء ما كان في يومه ذلك ، فإذا مضى يومه ذلك ، ولم يطف فيه بالبيت ، عاد حراما كما كان قبل ذلك . فلم نجد لأهل هذا القول معنى من طريق القياس ، فنذكره لهم ، وإنما وجدنا لهم في ذلك حديثي أم سلمة ، وأم قيس اللذين رويناهما عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب .

                  فكان حديث عائشة الذي رويناه عنها في هذا الباب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ، فأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولم يستثن منه شيئا ، أولى عندنا ، فإن تكلم رجل في الحجاج بن أرطاة الذي دار عليه حديث عائشة هذا ، فلخصمه أن يتكلم أيضا في محمد بن إسحاق ، وعبد الله بن لهيعة اللذين دار عليهما حديث أم سلمة ، وأم قيس اللذين رويناهما في هذا الباب ، والكلام في كل واحد منهما أكثر من الكلام في الحجاج بن أرطاة ، لأن الحجاج إنما تكلم فيما أرسله ، فأما ما قال فيه : سمعت ، أو : أخبرني ، أو : حدثني ، فلم يتكلم في ذلك أحد ، وكل واحد من محمد بن إسحاق ، ومن عبد الله بن لهيعة فقد تكلم في كل حديثه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية