الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  كتاب المكاتبة .

                  [ ص: 456 ] تأويل قوله تعالى : ( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) الآية .

                  قال الله جل ثناؤه : ( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) .

                  فكان الكتاب الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية غير مبين ما هو فيها ، ولا فيما سواها من آي القرآن ، ومبينا في السنة ما هو ، وهو أن يكاتب الرجل مملوكه على مال معلوم على أنه يعتق بعقد المكاتبة عليه في حال ما قد اختلف فيها ، نحن ذاكروها في بقية هذا الباب إن شاء الله .

                  وأما قوله عز وجل : ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، فقد اختلف في الخير المراد في ذلك ما هو ، فروي فيه عن غير واحد من المتقدمين ما نحن ذاكروه أيضا في هذا الباب إن شاء الله ، فمما روي عنهم في ذلك ما :

                  2032 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : صدقا ووفاء .

                  2033 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا بشر بن عمر ، عن شعبة ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : دينا .

                  2034 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن يونس ، [ ص: 457 ] عن الحسن ، ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : دينا وأمانة .

                  2035 - حدثنا إبراهيم ، قال حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : إن علمتم لهم مالا .

                  2036 - حدثنا إبراهيم ، قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن شعبة ، عن منصور ، عن عطاء ، ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : مالا .

                  2037 - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، قال حدثنا محمد بن يوسف الفريابي ، قال حدثنا سفيان ، عن هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : إن أقاموا الصلاة .

                  2038 - حدثنا ابن أبي مريم ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا قيس بن الربيع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال : إن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير .

                  فأما ما روينا في تأويل هذا الخير المذكور في هذه الآية عن إبراهيم والحسن فمعناه عندنا - والله أعلم - إن علمتم فيهم أن فيهم الدين والصدق والوفاء الذين يعاملوكم على أنهم متعبدون فيه بالوفاء لكم ، والخروج إليكم مما تكاتبونهم عليه ، أي فمن كانت هذه سبيله فكاتبوه إذا كان مذهبه الصدق في معاملته ، والوفاء لغريمه بما عليه .

                  [ ص: 458 ] وفي حمل هذا الخير على هذا التأويل ما دل على أن قوله عز وجل : فكاتبوهم عند إبراهيم والحسن على الإرشاد ، لا على الإيجاب .

                  وأما ما رويناه في تأويل الخير عن عبيدة ، وأنه الصلاة ، فإن كان يعني بذلك ما يجب على مقيمي الصلاة من الوفاء بالأقوال والامتثال في المعاملات ما قد أمر الله عز وجل به مقيمي الصلاة ، فقد رجع معنى ذلك إلى المعنى الذي ذهب إليه إبراهيم والحسن فيه .

                  وإن كان يعني إقامة الصلوات المفروضات خاصة فذلك عندنا لا معنى له ، لأنه لم يمنع في هذه الآية من مكاتبة غير أهل الصلاة من اليهود ، ومن النصارى ، وغيرهم ، ولم يكره ذلك لأحد من أهل الإسلام ، ولم ينه عنه .

                  وأما ما روينا في تأويل مجاهد وعطاء ، وأنه المال ، فذلك محال عندنا ، لأن العبد نفسه مال لمولاه ، فكيف يكون له مال ؟

                  وأما ما روينا في تأويله عن سعيد ، وأنه إرادة الخير ، فذلك يرجع إلى معنى ما روينا عن الحسن وإبراهيم ، لأن الصدق والوفاء من الخير وهذا الذي ذكرنا من الكتاب فغير واجب على الناس ، وإن علموا فيمن يملكون الخير ، وابتغوا منهم الكتاب ، لأن ذلك لو كان واجبا على المالكين إذا طلبه منهم المملوكون ، لكان واجبا على المملوكين إذا طلبه منهم المالكون ، لأن أحكام التمليكات كلها من البياعات ، وغيرها كذلك يستوي فيها حكم المملك لها وحكم المملك إياها .

                  وقد اختلف أهل العلم في الرجل كاتب عبده على المال الحال ، فقالت طائفة : المكاتبة على ذلك جائزة وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد كما حدثنا سليمان ، عن أبيه ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، بغير اختلاف ذكره بينهم .

                  وقالت طائفة لا تجوز المكاتبة إلا على مال آجل ، ولا تجوز على المال العاجل وممن قال هذا الشافعي ، غير أنه زاد على أهل هذه المقالة في ذلك ، أن المكاتبة لا تجوز إلا إلى نجمين فما فوقها من النجوم ، ولا تجوز حالة ولا إلى نجم واحد .

                  [ ص: 459 ] ولما اختلفوا في ذلك نظرنا فيه ، فوجدنا البياعات جائزات على الأبدال العاجلة ، وعلى الأبدال الآجلة ، ووجدنا النكاحات والخلع كذلك ولم نجد شيئا متفقا عليه لا يجوز إلا بأجل غير السلم ، فإنهم جميعا مجمعون على أنه لا يجوز حالا غير الشافعي ، فإنه قد كان ذهب إلى إجازته حالا .

                  ولما كان حكم المكاتبة فيما ذكرنا فيه تمليك المكاتب كسبه بعوض يتعوض عليه ، كان حكمه بحكم البياعات أشبه فلما جاز عقد البياعات على الأيمان العاجلة وعلى الأيمان الآجلة ، جاز في عقد المكاتبات على الأموال العاجلة والآجلة هذا هو القياس عندنا في هذا الباب والله أعلم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية