الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  فكان الذي في هذه الآثار التي روينا إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوب البدنة لسائقها فاحتمل أن يكون ذلك لأن ركوب البدنة مباح على كل الأحوال كما قال أهل المقالة الأولى ، وكما ذهبوا إليه في تأويل الآية التي تلونا واحتمل أن يكون ذلك لجهد رآه بالسائق ولضرارة به ، فأباحه بذلك ركوب البدنة فنظرنا ، هل نجد في شيء من الآثار ما يدلنا على شيء في ذلك ؟ فإذا نصر بن مرزوق ، :

                  1770 - قد حدثنا ، قال حدثنا علي بن معبد ، قال حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد ، قال : اركبها قال : يا رسول الله ، إنها بدنة قال : اركبها .

                  1771 - وإذا فهد بن سليمان ، قد حدثنا ، قال حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، وعبد الله بن محمد النفيلي ، قالا : حدثنا زهير بن معاوية ، قال حدثنا حميد الطويل ، عن ثابت ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة ، فكأنه رأى به جهدا ، قال : اركبها . قال : إنها بدنة قال : اركبها وإن كانت بدنة .

                  [ ص: 308 ] فعلمنا بذلك أن الذي كان من إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم سائق البدنة ركوبها في الآثار الأول ، كان بعد أن رأى به الجهد الذي رآه به ، فلم تكن فيها دلالة لنا على ركوبها ، ولا جهد به إلى ركوبها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لنا في هذين الأثرين : إنما أبحته ركوبها للضرورة أو للجهد الذي أراه به قد يحتمل أن يكون أباحه ذلك لهذا المعنى .

                  وقد يحتمل أن تكون إباحة ذلك لأن التبدين لا يمنع من هذا المعنى ، غير أنا وجدنا في هذا الحديث حرفا يدل على معنى ، وهو قول السائق لها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمره بركوبها : إنها بدنة فعقلنا بذلك أن حكم البدن كانت عندهم أن لا تركب ، ولم يرد ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول له : هل يحرم ركوب البدن ؟ .

                  ثم نظرنا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ذلك لنستدل به على الوجه في هذا المختلف فيه ، فوجدنا فهدا .

                  1772 - قد حدثنا ، قال حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، قال حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا .

                  فكان في هذا الحديث إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ركوب الهدي قبل أن يجدوا ظهرا ، والمنع منه إياهم من ركوبه إذا وجدوا ظهرا وعقلنا بذلك أن ما كان من إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم سائق البدنة في الآثار الأول من ركوبها المذكور فيها ، كان منه على الضرورة والجهد اللذين رآهما بسائقها ، ولا ينبغي لنا أن نحمل شيئا من هذه الآثار على التضاد ، ولا على الاختلاف الذي يدفع به بعضها بعضا ، وإنما يجب علينا أن نحملها على الاتفاق الذي يصدق بعضها بعضا ، إذ كنا نجد السبيل إلى ذلك منها .

                  [ ص: 309 ] فثبت بما ذكرنا من هذه الآثار التي روينا أن الحكم في البدن أن لا تركب في غير أحوال الضرورات ، ولا تركب في أحوال الضرورات ليكون ما روينا عن أبي هريرة ، وعن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإباحة في ذلك هو الإباحة التي رويناها عنه صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله وهذا القول أيضا أشبه بتأويل الآية من القول الآخر ، لأنه قال عز وجل في الآية : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) ، فدلنا ذلك على أن المنافع بها قد ترتفع عنها عند ذلك الأجل المسمى ، والأجل المسمى موجود في هذا التأويل ، لأن أهله يقولون : هو أن تصير بهيمة الأنعام بدنا ، فيحرم الانتفاع بها والآخرون لا يحرم الانتفاع بها في قولهم إلى بلوغ محلها ، ولا بد من أن يكون لقوله عز وجل : ( إلى أجل مسمى ) معنى والقياس أيضا يدل هذا القول ، وذلك أنا وجدناهم لا يختلفون أن هذه البدن التي ذكرنا اختلافهم في ركوبها ، ليس لسائقها إجارتها ، ولا التعوض بمنافعها إعواضا وقد وجدنا الأشياء التي الإملاك فيها متكاملة ، ومنافعها مباحة لأهلها ، لا بأس على أهلها بإجارته ، وتمليك منافعها بأعواض يتعوضونها منها ، كالمماليك الذين لم يدخلهم عتاق ، ولأولاده من مالكيهم ، ولا تدبير منهم لهم وكانت الولادة والتدبير إذا حدثا فيهم ممن يملكهم فنقصت بذلك الإملاك فيهم ، وصارت أمهات الأولاد منهم ممنوعات من بيعهن ، ومن تمليكهن أحدا ، وصارت المدبرون منهم ، في قول من يمنع من بيعهم ، أيضا لم يمنع من إجارتهم ، ولا من التعويض من منافعهم ، كما كان ذلك طلقا مباحا قبل حدوث ذلك فيهم ، إذ كان ما حدث فيهم من الولادة والتدبير لم يمنع أربابهم من الانتفاع بهم ، فلم يمنعهم أيضا من تمليك ذلك الانتفاع غيرهم ، والتعوض منه الأبدال ، وكانت البدن التي قد وجبت لله عز وجل ، وسيقت إليه ، وقلدت له ، ليس لمن جعلها كذلك إجارتها ، ولا الاعتياض من منافعها إعواضا فدل ذلك أنه ليس له أيضا الانتفاع بها ، وأنه لو كان له الانتفاع بها لنفسه إذا لكان له تمليك ذلك منها من شاء بما شاء من الأعواض ، كما كان له ذلك في أمهات الأولاد والمدبرين وفي ثبوت ما ذكرنا ثبوت القول الثاني من القولين اللذين وصفنا ، وأن تأويل الآية بالذي [ ص: 310 ] قال أهل هذا القول أولى من تأويلها بالقول الآخر وهكذا كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن يذهبون إليه في ركوب البدن ، أنه مباح في حال الضرورة ، ومحظور في غير حال الضرورة ، كما حدثنا سليمان ، عن أبيه ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ولم يحك في ذلك خلافا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية