الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وقد اختلف أهل العلم في هذا المكاتب الذي ذكرنا ، يموت بعد مكاتبته قبل أدائه إلى مولاه ، ويترك مالا قد كسبه في حال المكاتبة ، فقالت طائفة منهم : يؤدى إلى مولى من ذلك المال جميع الباقي له على المكاتب فيعتق بذلك المكاتب ، ويكون ذلك الأداء عنه بعد وفاته كأدائه عن نفسه في حياته وممن كان يقول ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد .

                  وقالت طائفة منهم : جميع ما خلفه المكاتب من ذلك المال لمولاه ، وقد بطلت المكاتبة ، وصار حكم المكاتب كالعاجز في حياته .

                  وقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذان القولان جميعا .

                  فمما روي عنهم في ذلك ما :

                  2074 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب بن جرير ، قال حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن رجل من قومه يقال له : محمد بن قابوس ، عن أبيه ، أنه كان مع محمد بن أبي بكر بمصر ، وكتب إلى علي يسأله عن مكاتب مات ، وترك أولادا أحرارا وبقية من مكاتبته ؟

                  فكتب إليه علي رضي الله عنه : يؤدى عنه ما بقي من مكاتبته ، ويكون ما بقي ميراثا لولده .


                  2075 - حدثنا سليمان بن شعيب ، قال حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال حدثنا شعبة ، قال : أخبرني قتادة ، قال : قلت لابن المسيب : أن شريحا ، كان يقول : يبدأ [ ص: 477 ] بالمكاتبة قبل الدين ، أو يشرك بينهما يعني في المكاتب إذا مات - شك شعبة - فقال : أخطأ شريح ، وكان قاضيا ، قال زيد بن ثابت : يبدأ بالدين .

                  قال أحمد : ففي قول زيد : يبدأ بالدين ما يدل على أن المكاتبة تعد عنده كانت قائمة ، ولم يفسخها موت المكاتب .

                  2076 - حدثنا محمد بن العباس ، قال حدثنا عبد الله بن محمد بن المغيرة ، قال أخبرنا سفيان الثوري ، عن شعبة ، عن قتادة ، قال : قلت لابن المسيب : أن شريحا ، كان يقول : في المكاتب يموت وعليه دين ، وعليه بقية من مكاتبته : قصرت مواليه بما قد حل من نجومهم ، وقصرت غرماؤه بدينهم قال : أخطأ شريح ، وكان قاضيا ، قال : زيد يقول : يبدأ بالدين .

                  2077 - حدثنا يحيى بن عثمان ، قال حدثنا نعيم ، قال حدثنا ابن المبارك ، قال أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة ، أن امرأة كوتبت ، ثم ولدت ولدين بعدما كوتبت ، ثم ماتت ، فسئل عنها ابن الزبير ، فقال ابن الزبير : إن قاما بكتابة أمهما فذلك لهما ، وإن قضياها اعتقا .

                  فهذا علي ، وزيد ، وابن الزبير قد ذهبوا إلى أن موت المكاتب لا يفسخ مكاتبته إذا كان قد ترك ما يؤدى عنه منه ، أو من يقوم بها عنه ومما روي عنهم في ذلك مما يوافق القول الآخر ما :

                  2078 - قد حدثنا يحيى بن عثمان ، قال حدثنا نعيم ، قال حدثنا ابن المبارك ، قال أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : إذا مات المكاتب وقد أدى طائفة من كتابته وترك مالا ، فإن ماله وما ترك من شيء لسيده ، وليس لورثته من ماله شيء .

                  [ ص: 478 ] قال وكان له مكاتب ولمكاتبه ولد من وليدة له قد أدى من مكاتبته خمسة آلاف ثم مات فقبض ابن عمر ما ترك من شيء أجمع واسترقهم .

                  ولما اختلفوا في ذلك نظرنا فيما ذهب إليه كل فريق فوجدنا الذين يذهبون في ذلك إلى بطلان مكاتبة المكاتب بموته يذهبون في ذلك إلى أن المكاتبة كالعتاق على الصفة فإذا بطلت الصفة التي بها يكون العتاق لم يجب العتاق كرجل قال لعبده : إذا أديت إلي ألف درهم فأنت حر ، وقبل ذلك العبد منه ثم مات العبد قبل أداء الدراهم إليه أن ذلك القول قد بطل وأنه لا يلحق العبد به عتاق بعد ذلك أبدا وكان مذهب أهل هذا القول الآخر من قائله إن المكاتبة الصحيحة على المال المعلوم ليست كالعتاق على المال المشترط فيه وجوب العتاق بعده كما ذكر أهل القول الأول ولكن حكمها حكم التمليكات الواجبات كالبياعات وكما أشبهها مالا يبطله ما يطرأ عليه من الموت الحادث في متعاقديه بعد ذلك لأن المكاتبة فيها تمليك من المولى لعبده كسبه بما كاتبه عليه ، فإذا وقعت المكاتبة بينهما على ذلك ملك المكاتب كسبه بذلك العقد فصار له دون مولاه وصارت المكاتبة دينا عليه لمولاه .

                  ألا ترى أن المكاتب لو اكتسب بعد التكاتب مالا ثم أن مولاه بعد ذلك أعتقه بلسانه ؛ أنه يكون حرا ، وأن كسبه الذي كان اكتسبه في حال المكاتبة له دون مولاه وأن مولاه لم يكن مالكا لشيء من ذلك الكسب قط وأن ذلك لا ينسبه العبد إذا جعله مولاه حرا إن أدى إليه مالا . لأن ذلك العبد لو اكتسب مالا ثم أعتقه مولاه بعد ذلك بلسانه وقبل أداء العبد المال الذي أعتقه عليه كان ذلك المال الذي اكتسبه قبل إعتاق المولى إياه غير مختلف فيه أنه قد كان للمولى قبل إعتاقه إياه وإنما يختلف أهل العلم في الحكم في ذلك المال بعد وقوع العتاق من المولى على ذلك العبد فطائفة منهم تقول ذلك المال للمولى وممن قال ذلك أبو حنيفة وسفيان وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي .

                  وطائفة تقول ذلك المال للعبد المعتق دون مولاه وممن قال ذلك مالك بن أنس .

                  [ ص: 479 ] فلما كان ما اكتسبه المكاتب في حال المكاتبة له دون مولاه ثبت بذلك أن المكاتب قد ملك على مولاه بعد المكاتبة مالم يملك مثله العبد الذي قال له مولاه إن أديت إلي ألف درهم فأنت حر ، على مولاه فلما مات المكاتب بعد ملكه ما ذكرنا لم يكن موته مبطلا لشيء مما كان ملكه في حياته وجرى حكمه بعد موته على حكمه الذي كان يجري عليه في حياته .

                  ولما كان العبد المعتق بعد أدائه الدراهم التي ذكرنا لم يملك على مولاه شيئا في حياته فمات بعد ذلك استحال أن يكون يستأنف به بعد وفاته تمليك ما لم يكن ملكه على مولاه في حياته .

                  فهذه حجة وفي ذلك حجة أخرى وهي أن العبد الذي قال له مولاه إذا أديت إلي ألف درهم فأنت حر لو مات مولاه بعد هذا القول قبل أداء العبد إليه الدراهم التي جعله حرا إن أداها بطل ذلك القول ولم يجز للعبد بعد موت مولاه استحقاق ذلك العتاق بأداء تلك الدراهم إلى من خلفه في ماله من وصي ومن وارث لأن الصفة التي عقد له المولى العتاق عليها وجعله حرا بها قد ذهبت وصار أداؤه بعد وفاة مولاه إنما هو أداء إلى غير مولاه والمكاتب فلم يره سلك به هذا المسلك لأنا لم نجدهم يختلفون في المكاتب بموت مولاه أن ذلك لا يفسخ مكاتبته وأنه يؤدي مكاتبته بعد موت مولاه إلى من يجب عليه أداؤها إليه من وصي إن كان أو وارث إن كان له واجب له فيض المكاتبة بعد موت المولى . فلما كان ذلك كذلك خرج به حكم المكاتب من حكم العبد الذي جعله مولاه حرا إن أدى إليه ألف درهم وبطل استعمال الصفات في المكاتب الذي ذكرنا وثبت استعمالها في العبد الذي وصفنا .

                  ووجدنا العبد الذي وصفنا يستوي حكمه بعد موت مولاه وبعد موته نفسه في حكم القول الذي كان من مولاه له وهو قوله له إن أديت إلي ألف درهم فأنت حر لأنه إذا قال له ذلك ثم مات المولى أو مات العبد قبل أداء العبد الدراهم إلى المولى بطل ذلك القول الذي كان من المولى فصار كلا قول فلما كان حكم ذلك القول بعد موت المكاتب وبعد موت مولاه مؤتلفا غير مختلف فلما كان موت المولى غير مبطل للمكاتبة ، [ ص: 480 ] وكانت المكاتبة تجري بعد موته على ما كانت تجري عليه في حياته كان كذلك بقي بعد موت المكاتب تجري على ما كانت عليه في حياته .

                  فإن قال قائل : أفيجوز أن يكون المكاتب بعد موت مولاه مكاتبا وعتيقا بعد موته فيكون ميتا حرا بعد أن كان ميتا مكاتبا ؟

                  قيل له : كما جاز بما وصفنا أن يكون بعد موته مكاتبا جاز أن يكون بعد موته مستعملا فيه حكم المكاتبة القائمة فيه بعد موته فهذه حجة وفي ذلك حجة أخرى إنا قد وجدنا أحكام المولى في قضاء ديونهم من تركاتهم ترجع بذلك أحكامهم إلى قضائهم تلك الديون عن أنفسهم في حياتهم أن لا ترى أن رجلا لو مات وعليه دين بقي بتركته وله ابنان لا وارث له غيرهما أنهما ممنوعان من ميراثه للدين الذي عليه وأن أحدهما لو مات بعد ذلك وترك بنين أنه قد مات قبل وراثته شيئا من تركة ابنه إذ كان الله عز وجل إنما جعل التركات ميراثا للورثة بعد قضاء الديون وبعد إنفاذ الوصايا لقوله عز وجل بعد ذكره ما ذكر من الفرائض والمواريث ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) و ( من بعد وصية توصون بها أو دين ) و ( من بعد وصية يوصين بها أو دين ) وكان هذا المتوفى أولى من هذين المتوفيين اللذين ذكرنا لو أبرأه الغرماء من الدين الذي لهم عليه فبرئ من ذلك وصار لا دين له عليه عادت تركته ميراثا عنه ولابنيه الحي منهما . والمتوفى بعد وفاته ولم يمنع المتوفى بعد وفاته من ميراث ابنه المتوفى في حياته ولم يجعل الدين الذي منعه من ميراث أبيه إلى أن توفي بعد أبيه مانعا له من الوراثة من أبيه بعد براءة أبيه من الديون التي كانت عليه . بل قد جعل بعد براءة أبيه وارثا عن أبيه كأخيه الحي إلى أن كاتب المرأة . وجعل أبوه إذا برئ بعد وفاته من الديون التي كانت عليه يوم توفي كمن برئ منها في حياته . فكذلك المكاتب الذي ذكرنا لما ثبت بما وصفنا بقاء المكاتبة [ ص: 481 ] فيه بعد وفاته كبقائها كانت في حياته فأديت المكاتبة عنه بعد وفاته إلى مولاه من تركته أو أبراه مولاه منها بلسانه بغير استبدال الشيء منها عاد بذلك حكمه إلى حكم من برئ منها في حياته فثبت بما ذكرنا في المكاتب المتوفى ما ذهبت إليه فيه الطائفة التي ذكرنا عنها أنه بعد موته باق على مكاتبته التي كان عقدها على نفسه في حياته وأنه يكون عتيقا بأدائها إلى مولاه أو بميراثه منها بغير أدائها إلى مولاه حتى يعود بذلك إلى حكم البريء منها في حياته المستحق للعتاق بها قبل وفاته .

                  ومن هذه الطائفة القائلين بهذا أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد .

                  واختلف أهل العلم الذين ذكرنا عنهم أن المكاتب لا يستحق العتاق بالمكاتبة حتى يبرأ من جميع المكاتبة في المكاتب يعجز عن المكاتبة ، هل يرجع رقيقا على ما كان عليه قبل المكاتبة باتفاقه ومولاه على ذلك ؟ أو لا يرجع إلى ذلك الرق إلا بحكم من الحاكم عليه به ؟

                  فقال بعضهم : لا يرجع إلى ما كان عليه قبل المكاتبة من الرق ، ولا يخرج من المكاتبة إلا بحكم الحاكم بذلك له وعليه ، ويرد القاضي إياه إلى الرق الذي كان فيه قبل عقد المكاتبة . وهذا قول كثير من فقهاء أهل المدينة .

                  وقال بعضهم إذا اجتمع المكاتب ومولاه دون القاضي على تعجيز المكاتب عن المكاتبة ، ورده إلى ما كان عليه من الرق قبلها وفعلا ذلك ، وفسخا المكاتبة التي كانت بذلك بتفسخه ، وعاد المكاتب في المستأنف رقيقا لمولاه . وممن قال ذلك أبو حنيفة . وزفر وأبو يوسف ومحمد .

                  ولما اختلفوا في ذلك احتجنا إلى استخراج الصحيح من هذين القولين اللذين وصفنا . فوجدنا المكاتبة جائزا للمولى عقدها على عبده برضى عبده بذلك دون القاضي . كما يجوز للرجلين أن يتعاقدا البيع دون القاضي . فلما ثبت أن المكاتبة مما يجوز عقده دون القاضي ، ثبت أن نسخها مما يجوز دون القاضي . وقد ذكرنا فيما تقدم في هذا الكتاب [ ص: 482 ] أن الأشياء التي يراد الحاكم في آخرها حتى يكون هذا المنفذ لها هي الأشياء التي كان يحتاج إلى الحاكم في أولها , وأن الأشياء التي لا يحتاج إلى الحاكم في أولها هي الأشياء التي لا يحتاج إليه في آخرها .

                  وشرحنا ذلك شرحا بينا فاستغنينا بذلك عن إعادته هاهنا وبالله التوفيق .

                  تم كتاب المكاتبة ، وبتمامه تم الجزء الأول من كتاب أحكام القرآن .

                  والحمد لله وحده ، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد نبيه وعبده وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما بدوام ملك الله إلى ما لا نهاية لذلك ، على يد العبد الفقير الراجي عفو ربه القدير محمد بن أحمد بن صفي بن قاسم المعروف بابن الغزولي . عفا الله عنه وعن من كان السبب في نسخ هذا الكتاب ، وهو المولى الأجل المحترم الرئيس المعلم شمس الدين محمد المعروف بالحجيح أثابه الله ، وتقبل منه ، وغفر له ولوالديه ولمن كتبه وقرأه وسمعه أو قرئ عليه ، وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم آمين آمين آمين رب العالمين .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية