الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وطائفة تقول : مضي الأربعة الأشهر بعد الحلف عزم من الزوج لوقوع الطلاق على المرأة المحلوف على جماعها ، إذا كان في الأربعة الأشهر واصلا إلى جماعها فترك ذلك إلى مضي الأربعة الأشهر وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وسفيان ، وأبو يوسف ، ومحمد ، كما [ ص: 384 ] حدثنا محمد ، عن علي ، عن محمد ، عن يعقوب ، عن أبي حنيفة ، وعن علي ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، وعن علي ، عن محمد ، وقد روي ما قالوا عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما :

                  1946 - حدثنا سليمان بن شعيب ، قال حدثنا الخصيب بن ناصح ، قال حدثنا يزيد بن زريع ، عن معمر ، عن عطاء الخراساني ، عن أبي سلمة ، عن عثمان بن عفان ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ، أنهما كانا يقولان : إذا آلى الرجل من امرأته فلم يفئ حتى يمضي أربعة أشهر فهي تطليقة بائن .

                  فهذا زيد قد روي هذا عنه ، وأكثر روايات سليمان ودونه من أهل المدينة في الفتيا عنه .

                  1947 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب بن جرير ، قال حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن عطية بن جبير ، عن أبيه ، قال : مات ذو قرابة لي ، وترك ابنا له ، فأرضعته امرأتي ، فحلفت أن لا أقربها حتى تفطم الصبي ، فلما مضت أربعة أشهر قيل لي : قد بانت منك امرأتك ، فسألت عليا ، فقال لي : إن كنت حلفت على تضرة فقد بانت منك امرأتك وإلا فهي امرأتك .

                  فهذا علي رضي الله عنه قد روي عنه ما في هذا الحديث أن مضي الأربعة الأشهر يوقع الطلاق إذا كان لم يقربها في الأربعة حتى مضت ، فهذا خلاف ما روينا عنه في الأول .

                  1948 - حدثنا علي بن شيبة ، قال حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : إذا مضت الأربعة الأشهر في تطليقة بائنة وهي أحق بنفسها .

                  [ ص: 385 ] 1949 - حدثنا عبد الملك بن مروان ، قال حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، أنهما كانا يقولان : إذا آلى الرجل من امرأته فلم يقربها حتى يمضي أربعة أشهر فهي تطليقة بائن .

                  1950 - حدثنا فهد ، قال حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال حدثنا أبي ، عن الأعمش ، قال : حدثني حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، إذا مضت أربعة أشهر فهي أحق بنفسها .

                  قيل لسعيد : وسمعت ابن عمر يقوله ؟ قال : نعم .

                  فهذا ابن عمر قد روى عنه سعيد في هذا ما يوافق الذي ذكرنا عن أبي حنيفة ، وسفيان ، ومن ذكرنا معهما ، وهو خلاف ما روى عنه نافع مما يوافق القول الأول وابن عمر كان ممن تدور عليه الفتيا بالمدينة ، فما ندري هل كان من الأربعة العشر الذين حكى عنهم سليمان ما حكيناه أم لا ؟ فإن كان فيهم فقد صار مختلفا عنه وكذلك يزيد ، إن كان فقد صار مختلفا عنه وما ندري بعد هذا من الأربعة عشر الذين حكى عنهم سليمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين وقفنا على مجالسته إياهم ، وروايته عنهم ، وأخذه الفتيا منهم ، إلا أن يكونوا ممن لم يلقهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحكى ذلك عنهم بلاغا ، ولم يحكه سماعا ، فإن كان ذلك كذلك فقد صار حديثه هذا في حكم المنقطع ، والمنقطع عند أكثر القائلين بالقول الأول ليس بحجة .

                  1951 - وكما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا أبو الوليد ، قال حدثنا شعبة ، قال : أخبرني الحكم ، قال : سمعت (مقسما) يقول : سمعت ابن عباس ، يقول : عزم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر ، والفيء الجماع .

                  1952 - حدثنا علي بن شيبة ، قال حدثنا يزيد بن هارون ، قال حدثنا [ ص: 386 ] شعبة ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : إذا آلى الرجل من امرأته فلم يف حتى مضى أربعة أشهر فهي تطليقة بائن .

                  ولما اختلفوا في ذلك ، وتعلقت كل طائفة منهم بما روت مما يوافق مذهبها عمن ذكر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه من ذلك لنستخرج من القولين اللذين اختلفوا فيهما وقالوا : هما في ذلك قولا يوجب القياس صحته ، ويشهد له الإجماع ، فنظرنا في ذلك فوجدنا الله عز وجل قد قال : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) ، فجعل التربص إلى مدة ، ثم قال عز وجل : ( فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ) فأجمع أهل العلم على أنه إن فاء إليها في الأربعة الأشهر قبل مضيها كان فيه ذلك فيئا قد دخل في هذه الآية ، وإن مضت ولم يفء إليها كان في ذلك الاختلاف الذي ذكرنا ، ووجب النظر الذي وصفنا ، فوجدنا الله عز وجل قد ذكر التربص في غير موضع سوى ما ذكر في هذه الآية ، من ذلك قوله عز وجل : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) ، فكان ذلك التربص الذي أوجبه عليهن غير مجاوز للأربعة الأشهر وللعشر التي جعلها عليهن ، إلى غيرها من الشهور ، وكن بعد انقضاء الأربعة الأشهر والعشر خارجات من التربص الذي كن فيه في الأربعة الأشهر والعشر .

                  ومن ذلك قوله عز وجل : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ، وكان ذلك التربص الذي أوجبه عليهن في الثلاثة القروء التي ذكر الله عز وجل ، لا فيما بعدها من الأقراء ثم رجعنا إلى آية الإيلاء ، فوجدنا الله عز وجل قد ذكر فيها تربصا أوجبه على الزوجات ، وحصره بمدة ذكرها ، فقال جل وعز : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) ، فكان في الأربعة الأشهر التي أوجب التربص عليهن فيها إذا مضت فلا معنى [ ص: 387 ] للتربص ، لأنه كان محصورا بمدة قد مضت ، فلا معنى له بعدها ، وإذا لم يكن له معنى بعدها ذهب معنى الإيلاء الذي يؤخذ المولي بالفيء الذي أوجبه الله عليه ، إنما يكون في المدة التي حبس المرأة عليه لها ، وجعلها متربصة بنفسها عليه إلى انقضائها ، لا فيما بعدها وإذا كان ذلك كذلك ثبت وقوع الطلاق على المرأة بمضي الأربعة الأشهر ، وثبت أن مضيها هو عزم الطلاق إذا كان الزوج فيها يمكنه الجماع الذي لو فعله كان قد فاء إليها ، وزال عن ظلمها بحلفه على ترك جماعها كما قالت الطائفة الثانية التي حكينا هذا القول عنها .

                  فقال قائل من أهل الطائفة الأولى محتجا على الطائفة الثانية : قد رأيناكم تقولون في الملاعن أن الفرقة لا تقع باللعان بينه وبين امرأته حتى يحدث القاضي فرقة بينهما فيزول بذلك النكاح ، وما لم يكن ذلك من القاضي فالنكاح بينهما على ما كان عليه قبل ذلك ، وكذلك تجب عليكم أن تقولوا في المولي أن الطلاق لا يقع منه حتى يكون القاضي هو الذي يحكم بإيقاع الطلاق عليها ، وبفراقه لها .

                  وكانت هذه المطالبة عندنا إنما يراد بها أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد دون زفر ، لأنهم كانوا يقولون في الملاعن ما حكاه هذا القائل ، وكان زفر يخالفهم في ذلك ، ويذهب إلى أن اللعان إذا تم من الزوجين وقعت الفرقة ، وإن لم يفرق الحاكم كما يقول أهل المدينة وسنذكر اختلاف الناس في ذلك ، واحتجاج بعضهم على بعض ، وإقامة الحجة للصحيح من أقوالهم فيما بعد إن شاء الله .

                  وأما الجواب للسائل فيما سأل عنه ، وفيما عارض به أبا حنيفة ، وأبا يوسف ، ومحمدا فيما ذكرنا ، فإنا رأينا اللعان لا يكون دون الحاكم ، فكان القياس أن تكون الأشياء التي تختم بها الحوادث ، وتكمل بها أحكامها ، أن ترد إلى حكم ما ابتدئت به ، فتكون أحكام أواخرها كأحكام أوائلها ليوافق بعضها بعضا ، فكما كان ابتداء اللعان من الحاكم كذلك تفيئته تكون من الحاكم ، أو كما كان ابتداء الإيلاء دون الحاكم كان ما يفيء منه يكون دون الحاكم وكذلك سائر الأشياء سوى هذين المعنيين قد جرت على هذين [ ص: 388 ] الحكمين ، فجعل حكم أواخرها كحكم أوائلها ، من ذلك عقود النكاحات قد رأينا تكون دون الحاكم ، وكذلك الأشياء التي تزيلها من الفرق بالطلاق يكون أيضا دون الحاكم ، فهذا حكم ما كان أوله دون الحاكم وأما ما لم يكن أوله إلا بالحاكم فتأجيل العنين الحول الذي يجب أن يؤجله لامرأته التي خاصمته في عجزه عن جماعها الواجب لها عليه بحق النكاح ، ولم يكن ذلك دونه ، ولم يكن لهما إيجاب الحول بينهما ، فكان الذي يوجبه مضي الحول من تخيير المرأة بين الإقامة مع زوجها الذي خاصمته في ذلك ، وبين فراقه ، لا يكون إلا عند الحاكم حتى يكون الحاكم الذي يوجب آخر هذا الأمر الذي أوجب أوله فثبت بذلك أن الأشياء كلها تدور على هذين المعنيين ، فكما كان أوله بالحكم لا بغيره فكذلك آخره يكون بالحكم ، وما كان أوله بغير الحكم فكذلك آخره يكون بغير الحكم والمولي فقد يكون إيلاؤه باتفاقهم جميعا بغير الحاكم فكذلك آخره ، قياسا على ما ذكرنا ، وبالله التوفيق .

                  وهذا الذي ذكرنا من الفيء والعزم اللذين وصفنا ، فإنما ذلك في المولي القادر على جماع زوجته المولي منها ، فأما إن كان عاجزا عن ذلك بعلة به من مرض أو غيره ، تمنعه من جماعها ، أو كانت بها علة لا يصل إلى جماعها كالمرض المضني لها ، أو كالرتق الذي يمنع من الوصول إليها ، أو كانا جميعا لا علة بهما ، ولا بواحد منهما يمنع من الجماع غير أن بينهما من المسافة ما لا يلتقيان فيه إلى مضي أربعة أشهر ، أو أكثر منها ، فإن أهل العلم مختلفون في هذا ، فطائفة منهم تقول : الفيء في هذا قول الزوج بلسانه : قد فئت ، فيكون في معناه لو فاء إليها بالجماع وهو قادر على ذلك ، غير أنه لا تزول عنه اليمين التي حلف بها كما تزول لو كان جامعها في الأربعة الأشهر قبل مضيها وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد كما حدثنا محمد ، عن علي ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، ولم يحك خلافا وقد قال هذا غير واحد من أهل العلم سواهم ممن كان يذهب إلى مضي الأربعة الأشهر هي عزيمة من المولي لوقوع الطلاق على التي آلى منها وممن كان يقول : لا يكون بمضي الأربعة الأشهر عزيمة منه لوقوع الطلاق عليها ، وقد كان القياس أن يكون قوله بلسانه : قد فئت إليها فيئا ، لأن ذلك غير مزيل لليمين ، فكما لا يزيل اليمين ، [ ص: 389 ] فكذلك لا يوجب الفيء ، وقد كان جماعة يذهبون إلى هذا القول ، ويقولون فيه بالقياس الذي ذكرنا ، ويخالفون أبا حنيفة ، وزفر ، أبا يوسف ، ومحمدا فيما حكيناه وقد قال به غير واحد ممن سواهم .

                  وقد كان يلزم القائلين أن مضي الأربعة الأشهر ليس بعزيمة لوقوع الطلاق ، أن لا نجعل الفيء باللسان فيئا ، لأنه إما نأخذ المولي في الأربعة الأشهر بالفيء ونجعل ذلك له أجلا ، فإن فعل وإلا أخذه به بعدها أو بالطلاق الذي يكون به مفارقا لها ، إذ كان تركه لها حتى تمضي أربعة أشهر عضلا منه لها ، فإذا كان غير واصل إلى جماعها لم يكن بذلك عاضلا لها ، ولم يستحق أن يؤخذ بالطلاق الذي يفارقها ، ولا بالفيء إليها بغير الجماع الذي هو حق له عليها ، وحق لها عليه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية