الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  ثم اختلف أهل العلم بعد هذا في تأويل قول الله عز وجل : ( ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ) ، وفي ذلك العود ما هو .

                  فقال قوم ، فيما ذكروا ، بظاهر الآية ، وجعلوا من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، غير مظاهر منها حتى يعود لذلك القول مرة أخرى فيكون حينئذ متظاهرا ، وتجب عليه الكفارة المذكورة في الآية .

                  وقال آخرون : إذا قال لها : أنت علي كظهر أمي ، صار بذلك مظاهرا ، وحرمت به عليه حرمة الظهار التي ذكر الله عز وجل ، ولم يحل له جماعها حتى يكفر بالكفارة التي أمره الله عز وجل وقالوا : قوله لها : أنت علي كظهر أمي ، عود إلى ما قد قيل في الجاهلية مما قد نهى الله عز وجل عنه وسماه : ( منكرا من القول وزورا ) ، وتأولوا قول الله عز وجل : ( ثم يعودون لما قالوا ) ، على معنى : ويعودون لما قالوا ، لأن العرب قد تجعل مكان الواو : ثم ، كما قال الله عز وجل : ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ) ، في معنى : ( الله شهيد على ما يفعلون ) وجعلوا نفس القول عودا ، كما قال عز وجل : ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) ، في معنى : حتى صار ( كالعرجون القديم ) لأنه لم يكن في بدنه كما عاد ، وإنما صار كما عاد إليه وكما قال أبو ربيعة الثقفي في أبياته [ ص: 395 ] التي يمدح بها الفرس لما غلبوا على اليمن ، كما حدثنا فهد ، قال حدثنا يوسف بن بهلول الكوفي ، عن عبد الله بن إدريس ، عن محمد بن إسحاق :


                  تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بما فعادا بعد أبوالا



                  أي : فصارا بعد أبوالا ، لا لأنهما كانا في البدو أبوالا فصارا غير أبوال ثم عادا بعد أبوالا بعد ذلك وهذا القول قد قال به غير واحد من أصحابنا .

                  وقال آخرون : العود في هذا أن يتظاهر الرجل من امرأته ، ثم يجمع على إمساكها وإصابتها ، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة ، وإن طلقها بعد تظاهره ، ولم يجمع على إمساكها وإصابتها ، فلا كفارة عليه ، فإن تزوجها بعد ذلك لم يقربها حتى يكفر كفارة الظهار قبل أن يطأها وممن قال ذلك منهم مالك كما حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا قال ذلك ففي هذا ما يدل على أنه لا تجب الكفارة على المظاهر بالقول الذي كان فيه حتى يكون مع القول العزم على الإمساك والإصابة ،وإنه إن طلق قبل العزم على الإمساك والإصابة فلا كفارة عليه ، وأنه متى عاد عاد وجوب المعنى الذي كان في حكم الثدي في التظاهر ، ونحي على قياس هذا القول أن تكون الكفارة إذا وجبت بالوجه الذي يوجبها في قول القائلين به أنه لا يبطلها عن المتظاهر ثبوت المرأة ، لا زوال النكاح ، ولا حرمتها على المتظاهر منها بأي معنى حرمت عليه من وجوه الحرمات ، إذ كان الذي يوجب الكفارة عندهم هو العزم على الإمساك والإصابة الذي قد تقدم قبل ذلك من المتظاهر وهذا خلاف مذهب محمد الذي لم يحك فيه خلافا بينه وبين أحد من أصحابه ، لأنه كان يقول : إذا ماتت المرأة المتظاهر منها سقطت الكفارة عن المتظاهر ، وكذلك إذا طلقت عليه أو حرمت عليه بمعنى غير الطلاق ، سقطت عنه الكفارة في تظاهره منها لأن الكفارة عنده إنما تطلق له مسيسها الذي كان حراما عليه قبلها بالتظاهر الذي كان منه قبلها ، ولأن الله عز وجل قال : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) ، أي حتى يعودا بعد تحرير الرقبة إلى حكم حل المماسة لهما الذي كانا امتنعا منه بالتظاهر الذي كان طرأ عليهما .

                  [ ص: 396 ] وأما الشافعي رحمه الله فذكر لنا المزني ، أنه قال في قوله عز وجل : ( ثم يعودون لما قالوا ) ، قال : فالذي عقلت مما سمعت في : ( يعودون لما قالوا ) ، أنه إذا أتت على المتظاهر مدة بعد القول بالظهار ، لم يحرمها بالطلاق الذي تحرم به ، وجبت عليه الكفارة ، .

                  كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرم على نفسه فقد عاد لما قال مخالفة ، فأحل ما حرم .

                  قال الشافعي : لا أعلم له معنى أولى به من هذا ، فالكفارة عليه بعد ذلك ولو ماتا أو مات أحدهما ، وكان هذا - والله أعلم - عقوبة مكفرة لقول الزور ولو تظاهر فأتبع الظهار طلاقا تحريما عليه ، ثم راجعها ، فعليه الكفارة ، ولو طلقها ساعة نكحها ، لأن مراجعته إياها أكثر من حبسها بعد الظهار .

                  قال المزني : هذا خلاف لأصله ، كل نكاح جديد لا يعمل فيه طلاق ولا ظهار إلا جديد .

                  ولما اختلفوا في ذلك نظرنا فيما قاله من تقدمهم فيه ، فلم نجد في ذلك منصوصا غير ما :

                  1961 - حدثنا محمد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي ، وعلي بن عبد الرحمن بن المغيرة ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ) ، فهو قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فإذا قال ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار .

                  فهذا يدل على أن الكفارة إنما يراد ليحل بها الجماع وفي ذلك دليل على أن لا كفارة بعد زوال النكاح ، ولا بعد عدم حل الجماع .

                  وقد ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآثار التي ذكرنا في أول هذا [ ص: 397 ] الباب ، ووصف ما كان من زوج خولة ، وهو أوس بن صامت ، وأنه قوله لها : أنت علي كظهر أمي ، فحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك بعد نزول الآية التي أنزلت حتى يفعل ما أمر به ، ولم ينتظر بذلك أن يقولوا لها قولا مثله ، فيكون بذلك القول عائدا كما قال أهل المقالة الأولى التي حكينا في هذا الباب فبطل بذلك ما قالوا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال للمتظاهر منها لما ذكرت له ظهار زوجها منها قبل نزول الآية التي فيها كفارة الظهار : قد حرمت عليه ، لأن الظهار كان حينئذ لا حكم له تحله الكفارة ، أو تجب فيه الكفارة ، إنما كان طلاق أهل الجاهلية حتى أنزل الله عز وجل فيه ما أنزل ، فقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتظاهر ، ثم قال :

                  أتجد كذا ؟ أتستطيع كذا ؟ ولم يقل له : أتطلقها فتسقط الكفارة عنك ، كما يقول الشافعي ، أو : أتحبسها وتعزم على مرافقها ، فيكون بذلك عائدا كما قال مالك ، فتجب الكفارة عليك ؟ .

                  ففي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك دليل على أن الكفارة تجب بخلاف هذين المعنيين ، وهو لأن يحل بها ما كان حراما قبلها كما قال الذين ذكرنا عنهم في هذا الباب .

                  وقد اختلف أهل العلم فيمن جعل امرأته عليه كظهر من هي عليه حرام من ذوات محارمه المحرمات عليه ، فجعل قوم حكم ذلك كحكم المظاهر بالأمهات وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد كما حدثنا سليمان ، عن أبيه ، عن محمد في إملائه عليهم وقد كان الشافعي يذهب إلى هذا فيما ذكره لنا المزني عنه وأبى ذلك قوم آخرون من أهل العلم ، فلم يجعلوا الظهار إلا بالأمهات خاصة دون من سواهن من ذوات الأرحام المحرمات ولما اختلفوا في ذلك ، ووجدنا الله عز وجل قد ذكر الطلاق في كتابه فسماه بما سماه ، ثم رأيناهم جميعا قد ألحقوا بذلك ما فيه معاني الطلاق مثل الخلية ، والبرية ، والبائن ، والحرام ، وما أشبه ذلك من الوجوه التي يحكمون لها بحكم الطلاق ، وإن لم يكن في ظاهرها [ ص: 398 ] طلاقا وكذلك الإيلاء ، وهو قول الرجل لامرأته : والله لا أقربك ، قد ألحق بذلك أمثاله ، مثل قوله : إن قربتك فأنت طالق ، وإن قربتك فعلى حجة ، أو : إن قربتك فعلى عتق رقبة ، أو ما أشبه ذلك فالقياس على ذلك أن يكون الظهار كذلك ، وأن يكون بالأمهات وبمن حكمه حكم الأمهات في الحرمات ممن ذكرنا ، ويستوي في ذلك أهل الحرمات بالرضاع ، وأهل الحرمات بما سواه وكذلك كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد يذهبون إليه كما حدثنا سليمان ، عن أبيه ، عن محمد في إملائه عليهم ، وإن كان بعض أهل العلم ، قد خالفهم في ذلك ، فذهب إلى أن المتظاهر لا يكون بمن طرأت حرمته كالرضاع الطارئ ، وكما سواه من الأشياء الطارئة ، فإن القياس يمنع من هذا القول ، لأن الله جل ثناؤه لما جعل على المظاهر الكفارة في جعله امرأته التي جعلها الله حلاله ، كظهر أمه التي جعلها الله عز وجل عليه حراما ، كان ذلك أيضا إذا جعلها عليه حراما كحرمة ما قد حرمه الله عز وجل عليه بالرضاع في هذا المعنى أيضا .

                  وقد اختلف أهل العلم في الرقاب الواجبات على المتظاهرين ، هل تجزئ فيها غير المؤمنات كما تجزئ المؤمنات ؟ فقال بعضهم : لا تجزئ فيها إلا المؤمنات وممن قال ذلك الشافعي ، قال : لأنهن وإن لم يوصفن في آية الظهار بالإيمان فقد وصفهن به في غيرها من أي الكفارات كقوله عز وجل في كفارة القتل الخطإ : ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) ، فدل ذلك أن سائر الرقاب اللائي ذكرها في كتابه في الكفارات كذلك ، وأنه لا يجزئ فيها إلا المؤمنات كما ذكر عز وجل الشهود في كتابه فقال : ( لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ) فكان ذلك على العدول وإن لم يصفهم في الآية التي ذكرهم فيها ، إذ كان قد وصفهم بذلك في غيرها كقوله عز وجل في آية الدين : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ) وفي آية الوصية : ( اثنان ذوا عدل منكم ) وفي آية الرجعة : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) .

                  [ ص: 399 ] وخالفهم في ذلك آخرون ، فقالوا : تجزئ في ذلك المؤمنات وغير المؤمنات ، إذ كان الله عز وجل قد أطلقهن فلم يصفهن بإيمان ولا بغيره في الآي اللاتي ذكرهن فيها ، ولا يجزئ فيما وصفه فيهن بالإيمان إلا المؤمنات ، وكان من حجتهم على أهل المقالة الأولى أن قالوا : رأينا في كتاب الله عز وجل من الكفارات ما قد وصف بشيء ولم يوصف به سائر الكفارات ، فلم يكن ما وصفت به كفارة دليلا على ما وصفت به كفارة أخرى مما لم يذكر ذلك فيها ، وذلك قوله عز وجل في كفارة القتل الخطإ ، وفي كفارة الظهار : ( فصيام شهرين متتابعين ) فكان ذلك على التتابع ، لا يجزئ إلا عليه ، وقوله في كفارة الأذى : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) وكان ذلك الصيام يجزئ فيه التتابع وغير التتابع ، وفي كفارة الصيد : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ) حتى ذكر الصيام الذي ذكره عز وجل ، فكان ذلك الصيام يجزئ فيه التتابع وغير التتابع .

                  وقوله في التمتع بالعمرة إلى الحج عند عدم الهدي : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) ، فكان ذلك يجزئ فيه التتابع وغير التتابع في أشباه ، لذلك فلم يجعل ما لم يوصف بالتتابع من هذه الأشياء على التتابع ، إذ كان غيره من أشكاله قد وصف به ، بل جعل الموصوف بالتتابع لا يجزئ إلا متتابعا ، والمسكوت عن ذكر التتابع فيه يجزئ متتابعا وغير متتابع ، غير الصيام في كفارات الأيمان ، فإن الذين أوجبوا التتابع في ذلك إنما أوجبوه فيما ذكرو اتباعا لما في قراءة ابن مسعود : فصيام ثلاثة أيام متتابعات وسنذكر ذلك ، وما يلزم أهل هذه المقالة ، والحجة عليهم ، والحجة لهم في موضعه إن شاء الله .

                  فلما كان ما ذكرنا في الصيام كما وصفنا ، كان كذلك المذكور بالإيمان من الرقاب ، لا يجزئ فيه إلا من كان كذلك ، والمسكوت من ذكره بالإيمان منها تجزئ فيه المؤمنات وغير المؤمنات ، ولا يكون الوصف لأحد الأمرين من الرقاب بالإيمان وصفا للآخر [ ص: 400 ] كما لم يكن ذلك في الصيام والرقاب اللائي من الكفارات أشبه بالصيام الذي من الكفارات منها بالشهادات فثبت بذلك أنه يجزئ في الرقاب المسكوت عن وصفها بالإيمان المؤمنات وغير المؤمنات كما قال القائلون بذلك وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد .

                  وهذه الرقاب التي ذكرنا أنها تجزئ في الكفارات غير الظهار قد اختلف فيها ، أي الرقاب هي ؟ فقال قائلون : هي غير المستهلكات منهن بالعمى ، أو بقطع اليدين ، أو بقطع الرجلين ، أو بقطع يد ورجل من جانب واحد فأما ما سوى ذلك من النقصان الذي يكون كالعور ، وكقطع إحدى اليدين ، أو إحدى الرجلين ، أو قطع يد ورجل من جانبين مختلفين ، فإن من كان منهن كذلك يجزئ في ذلك وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد .

                  وقال قائلون : لا يجزئ في ذلك إلا من كان قادرا على البطش وإن كان ناقصا كالأعور ، وكما أشبهه فأما الذي ينقص بطشه بذهاب يده حتى يكون ذلك نقصانا بينا في بطشه فلا يجزئ وممن قال ذلك الشافعي .

                  وقال قائلون : لا يجزئ من الرقاب من كانت عوراء ، ولا من كانت قطعاء ، ولا يجزئ منهن إلا من كان سليما من ذلك ، ومما أشبهه ولما اختلفوا في ذلك نظرنا فيه ، فوجدنا الناقص الأنملة أو المعيب عيبا في يديه ينقصه ذلك العيب من قيمته لو كان صحيحا ، أو من ثمنه لو كان سليما منه من الرقاب ، يجزئ بلا اختلاف في ذلك علمناه فعقلنا بذلك أنه يجزئ من الرقاب في ذلك من به نقص ما ، ثم إن كان غير لاحق بأحوال ذوي التمام .

                  فإن احتج محتج في ذلك بالضحايا وبالهدايا ، فقال : قد رأينا الضحايا والهدايا لا يجزئ فيها الأعمى ، كذلك الرقاب الواجبات ، ورأينا الضحايا والهدايا لا يجزئ فيها الأعور ، وكان ما إذا ذهبت عيناه جميعا لم يجز في ذلك ، لا يجوز فيه إذا ذهبت إحداهما ، فكذلك الرقاب .

                  قيل له : قد رأينا أمور الضحايا والهدايا قد وكد في هذه المعاني أكثر مما وكد في [ ص: 401 ] أمثالها من الرقاب ، من ذلك إنا رأينا الصغير من الرقاب يجزئ فيما يجزئ فيه الكبير ، ورأينا السخل من المواشي لا يجزئ فيما يجزئ فيه الكبير ، فدل ذلك على اختلاف أصليهما ، وأن أحدهما قد زيد في توكيده على توكيد الآخر ، وإذا تباين أصلاهما في زيادة توكيد أحدهما على الآخر تباين فرعاهما ، وبطل أن يرد حكم فرع أحدهما إلى حكم فرع الآخر ولما بطل ذلك ، وثبت أنه لم يرد في الرقاب المتكامل منها ، ثبت أنها تجزئ على النقائص التي فيها كما تجزئ لو كانت فيها نقائص حتى يجمع على خروجها من ذلك إلى النقائص التي يجمع على أنها لا تجزئ وهي بها فثبت بذلك ما ذكرنا عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد في هذا .

                  وأما قوله عز وجل : ( فصيام شهرين متتابعين ) ، فذلك من المحكم الذي جعله الله عز وجل كفارة من لم يجد رقبة يعتقها عن ظهاره .

                  فإن دخل في الصوم غير واجد للرقبة ، فصام بعضه ثم وجدها ، فإن أهل العلم يختلفون في ذلك ، فكان بعضهم يقول : إذا كان الذي صام أكثر الصوم ، والذي بقي أقله ، مضى على صومه وأجزأه الصوم ، وإن كان الذي صام أقله ثم وجد الرقبة لم يحتسب بما مضى ، ولم يكن الصوم له كفارة ، وكان عليه أن يعتق الرقبة وممن قال ذلك مالك بن أنس .

                  وكان بعضهم يقول : إذا دخل في الصوم ، فصام شيئا منه قليلا كان أو كثيرا ، ثم وجد الرقبة أتم صومه ، ولا عتق عليه ، لأنه دخل في ذلك وهو من أهله وممن قال ذلك الشافعي .

                  وكان بعضهم يقول : إذا صام وهو لا يجد الرقبة ، ثم وجدها وقد بقي عليه من الصوم شيء ، قل ذلك أو كثر ، زال ذلك العذر ، ولم يجزئه الصوم ، وكان عليه العتق ، وكان في معنى من كان واجدا للرقبة قبل دخوله في الصوم وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وهذا هو القول عندنا - والله أعلم - لأن الله عز وجل إنما جعل الصوم كفارة لمن لم يكن من أهل الرقاب ، فإذا صار من أهلها لم يجزئه أن يصوم صوما لم يجعل [ ص: 402 ] لوجد الرقاب كفارة وقد بين الله عز وجل أن ذلك الصوم لا يجزئ الواجد من الرقاب ، فإذا ارتفع أن يجزئه ما صام وهو واجد للرقبة لم يجزئه عن كفارته إلا الرقبة ، ولأن قول الله عز وجل : ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) لا يخلو من أن يكون الفرض هو الصوم لمن لم يكن من أهل الرقاب في حال وجوب الكفارة عليه ، لا تتحول عن ذلك إلى غيره ، وإن صار من أهل الرقاب أو يكون حكم وجود الرقاب معتبرا فيه إلى سقوط الكفارة عنه .

                  فلما أجمعوا أن من كان له الصيام إذ كان من غير أهل الرقاب ، فلم يصم حتى صار من أهل الرقاب ، أنه يرجع إلى ذلك الحكم ، ولا يجزئه الصيام ، دل ذلك أن الصوم لم يكن فرضه عند عدم الرقبة فرضا لا يتحول منه إلى غيره إذا وجدها لم يدخل في الصوم ، وكان ذلك دليلا أن الصوم إنما يجزئه ما كان من أهل عدم الرقبة ، فإذا صار من أهل وجودها لم يجزئه .

                  وقد وجدنا لذلك نظيرا مجمعا عليه من فرائض الله عز وجل على عباده ، وهو قوله عز وجل : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) ، وقوله عز وجل : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ، يعني من سوى الصنفين اللذين جعل عددهما الشهور ، وكانت الصغيرة التي لم تحض إذا طلقت فدخلت في العدة ، وهي الشهور ، ثم طرأ عليها الحيض لم تعتد بما مضى من الشهور ، واعتدت بالأقراء ، وكانت في حكم من طلق وهو من أهل الأقراء فكان القياس أن يكون كذلك حكم وجود الرقاب إذا طرأ في الصوم المجعول بدلا منها إذا لم يكن أن يكون في حكمه لو طرأ قبل الدخول فيه .

                  فأما من فرق بين مضي قليل الصوم ومضي كثيره فلا معنى لتفريقه بين ذلك عندنا وأما قوله عز وجل : ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) ، فذلك من المحكم في عدد المساكين ، ومن المتشابه في مقدار ما يطعمون وفي الصنف الذين هم منه ، فقال [ ص: 403 ] قائلون من أهل العلم : المراد به إطعام كل مسكين مدا واحدا من طعام بلد المكفر الذي يقتات منه حنطة أو شعير أو أرز أو سلت أو تمر أو زبيب أو أقط هكذا كان الشافعي يقول في هذا فيما ذكر لنا المزني ، وهو معنى عامة أهل المدينة في تقديرهم المد .

                  وقائلون يقولون : لا يجزئ في ذلك من الإطعام إلا مدان لكل مسكين ، وهما نصف صاع بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ذلك حنطة أو دقيقا أو سويقا منها فأما من الشعير ، أو من دقيقه ، أو من سويقه ، ومن التمر فصاع صاع بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل مسكين ، لا يجزئ عندهم من كل جنس من هذه الأجناس غير الذي ذكرنا منه وممن قال ذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية