الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  تأويل قوله تعالى : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) الآية .

                  قال الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) .

                  فكان العمد المذكور في هذه الآية من المتشابه المختلف في المراد به ما هو .

                  فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الذين عليهم الجزاء بإصابة الصيد من المحرمين في هذه الآية هم المتعمدون لقتل الصيد ، لا من قتله منهم غير متعمد لقتله ، واحتجوا في ذلك بظاهر الآية ، وقالوا : قد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يدل على أن مذهبه كان في تأويلها هذا المذهب ، وذكروا في ذلك ما :

                  1716 - قد حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي ، قال حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، سمع قبيصة بن جابر ، يقول : خرجنا حجاجا ، فكثر مراء القوم ، أيهما أسرع معنا : الفرس أو الظبي ، فسنح لنا ظبي ، والسنوح ، هكذا قال سفيان ، يمينا وشمالا ، فرماه رجل منا فما أخطأ خششاءه ، فركب ردغه فمات ، فأسقط في يديه ، فأتى عمر رضي الله عنه وهو بمنى ، فجلس بين يديه ، فاقتص عليه القصص ، فقال : كيف أصبته أخطأ أم عمدا ؟ . قال : لقد تعمدت رميه ، وما أردت قتله قال : لقد شركت الخطأ والعمد ثم أجنح إلى رجل إلى جنبه كأن وجهه قلب ، فشاوره ، ثم أقبل علينا ، ثم قال للرجل : خذ شاة من الغنم فأهرق دمها ، وتصدق بلحمها ، واسق إهابها سقاء .

                  فلما قمنا من عنده قلت : أيها المستفتي ابن الخطاب ، إن فتيا ابن الخطاب لن تغني عنك من الله عز وجل شيئا ، فانحر ناقتك ، وعظم شعائر الله عز وجل ، فوالله ما علم ابن الخطاب حتى سأل الرجل الذي إلى جانبه فنماها ذو العينين إلى عمر رضي الله عنه ، فما [ ص: 273 ] علمت بعمر إلا قد أقبل بالدرة ، فجعل يضرب على صاحبي صفوقا صفوقا ، ثم يقول : قاتلك الله ، تعدي الفتيا ، وتقتل الحرام ، وتقول : والله ما علم عمر حتى سأل الذي إلى جنبه ، أما تقرأ : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) ؟ ثم أقبل علي ، فأخذ بجميع ثيابي ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا أحل لك شيئا حرمه الله عز وجل عليك فتركني ، ثم قال : إني أراك رجلا فصيح اللسان ، فسيح الصدر ، وقد يكون في العشرة الأخلاق تسعة صالحة وخلق سيئ ، فيفسد التسعة الصالحة الخلق السيئ ، فاتق عثرات الشباب .

                  قالوا : أفلا ترى أن عمر قد سأل : الرجل أعمدا قتلته أم خطأ ؟ ولا يكون ذلك إلا لافتراق حكم الخطإ والعمد عنده رضي الله عنه في ذلك .

                  وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم ، فأوجبوا الجزاء على كل من أصاب الصيد من المحرمين على الخطإ والعمد جميعا ، وذهبوا في تأويل قوله عز وجل : ( ومن قتله منكم متعمدا ) إلى أن ذلك مردود إلى قوله عز وجل : ( ومن عاد فينتقم الله منه ) .

                  وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى في الحديث الذي ذكرنا عن عمر رضي الله عنه ، وفي سؤال عمر الرجل الذي أصاب الصيد : أعمدا قتلته أم خطأ ؟ أنه قد يجوز أن يكون أراد ذلك ليعلمه أنه إن كان قتله عمدا ، ثم قتل بعده صيدا عمدا انتقم الله عز وجل منه ، فأراد عمر تحذيره من ذلك مع أنه قد روي هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير سعيه ، فخالف سفيان بن عيينة في الألفاظ التي رواه عليها .

                  1717 - كما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، قال حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عبد الملك بن عمير ، قال : سمعت قبيصة بن جابر ، قال : حججت أنا وصاحب لي ، فرأينا ظبيا قال : فقال أو قلت لصاحبي : أتراك تبلغه ؟ قال : فأخذ صاحبي حجرا فرماه ، فأصاب خشاءه ، فقتله ، فأتى عمر رضي الله عنه ، فذكر ذلك له ، فقال له عمر : أعمدا قتلته أم خطأ ؟ فقال : ما أدري فقال : اعمد إلى شاة فاذبحها ، وتصدق بلحمها ، واجعل إهابها سقاء ، أكذلك يا فلان ؟ لرجل إلى جانبه ؟

                  [ ص: 274 ] قال : فقلت لصاحبي : والله ما درى أمير المؤمنين حتى سأل الذي إلى جنبه ، انحر ناقتك قال : فعمد إلى ناقته فنحرها ، فبلغ ذلك عمر ، قال : فجاء فجعل يضربه ، وقال : أتقتل الصيد وتعدي الفتيا .

                  فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الحديث قد سأله : أعمدا قتلته أم خطأ ؟ فقال : ما أدري فحكم عليه فدل ذلك على أنه إنما سأله عن العمد والخطإ ليقف به على وجوب الانتقام في العود فيحذره منه لو كان لا يرى عليه الجزاء في قتله الصيد حتى يكون متعمدا لذلك ، إذن لما أوجب عليه الجزاء إذا لم يدر أخطأ قتله أم عمدا ، مع أن الأشبه بمذهب عمر رضي الله عنه في ذلك هو هذا المذهب ، لا المذهب الآخر ، لما قد روي عنه في غير هذا الحديث .

                  1718 - كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا أبو عامر العقدي ؛ وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، قالا : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، أن كعبا ، قال لعمر : أن قوما استفتوني في محرم قتل جرادة ، فأفتيتهم أن فيها درهما فقال : إنكم يا أهل حمص كثيرة دراهمكم ، تمرة خير من جرادة .

                  أفلا ترى أن عمر لم ينكر على كعب تركه سؤال القوم عن قتل ذلك المحرم لتلك الجرادة هل كان عمدا أو خطأ ، لاستواء الحكم في ذلك عنده ، ولو كان الحكم عنده في ذلك مختلفا ، إذا لأنكر عليه تركه سؤالهم عن ذلك .

                  1719 - وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا شعبة ، قال : حدثني مخارق ، قال : سمعت طارق بن شهاب ، قال : اعتمرت أنا وصاحب لي ، فمر بضب ، فأوطأه ، فأتى عمر ، فسأله ، فقال : يا زيد بن جابر ، ما تقول فيها ؟ قال : أنت أعلم قال : إن الله عز وجل يقول : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) قال : فيه جدي قد جمع [ ص: 275 ] الماء والشجر قال : صدقت .

                  أفلا ترى أن الأغلب في ذلك الوطء إنما هو على الخطإ لا على العمد ، وقد حكم فيه عمر بالجزاء .

                  1720 - وكما حدثنا روح بن الفرج ، قال حدثنا يوسف بن عدي ، قال حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن حميد ، قال : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الأرنب يصيبها المحرم ، قال : فيه حلان من الغنم : جدي أو عناق .

                  أفلا (ترى) أن عمر لم يوقف السائل عن ذلك القتل عمدا أكان أو خطأ ، وأوجب عليه ما أوجب ، ولا يكون ذلك إلا وحكم الخطإ والعمد عنده في ذلك واحد .

                  وقد روي عن غير عمر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذا المعنى أيضا .

                  1721 - كما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الكريم ، عن أبي عبيدة ، أن رجلا ألقى جوالقا على يربوع ، فحكم فيه عبد الله جفرا أو جفرة .

                  1722 - وكما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا أبو داود الطيالسي ، عن شعبة بن الحجاج ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت عمرو بن عاصم ، يقول : كنت عند عبد الله بن عمرو بن العاص ، فسئل عن محرم أصاب أرنبا ، فقال لي : قل فيها يا عمرو قال : قل أنت أعلم مني قال : إن الله عز وجل يقول : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) . قال : [ ص: 276 ] قلت : فيها ولد شاة .

                  قال عبد الله بن عمرو : فيها ولد شاة .


                  1723 - وكما حدثنا ابن أبي داود ، قال حدثنا محمد بن الصباح ، قال حدثنا شريك بن عبد الله ، عن الركين بن الربيع ، عن عكرمة ، قال : سمعت ابن عمر ، وسأله رجل ، فقال : إني قتلت دباءة وأنا محرم فقال : اذبح شويهة .

                  قال : فتعجبت من قوله ، فذكرته لابن عباس ، فقال : طعام في كفك خير من دباءة .


                  فهذا عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، كلهم قد أجاب فيما يصيبه المحرم بوجوب الجزاء ، ولم يسأل أحد منهم عن عمد في ذلك ، ولا عن خطأ ، فلا يكون ذلك إلا لاستواء الحكم كان عندهم في ذلك ثم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على هذا المعنى أيضا .

                  1724 - قال حدثنا يزيد بن سفيان ، قال حدثنا وهب بن جرير بن حازم ، قال حدثنا أبي ، قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير ، يحدث عن

                  عبد الرحمن بن أبي عمار ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع ، فقال : هي صيد ، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، .

                  1725 - حدثنا يزيد بن سنان ، قال حدثنا حبان بن هلال ، وهدبة بن خالد ، وشيبان بن فروخ ، قالوا : حدثنا جرير بن حازم ، ثم ذكر بإسناده مثله .

                  1726 - حدثنا يزيد ، قال حدثنا حبان ، قال حدثنا حسان بن إبراهيم ، قال حدثنا إبراهيم الصائغ ، عن عطاء ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع ، فقال : هي صيد ، وفيها جزاء كبش مسن ، وتؤكل .

                  [ ص: 277 ] فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحرم الجزاء في الضبع إذا أصابها ، ولم يذكر في ذلك عمدا ولا خطأ ، ثبت بذلك أن إصابته إياها عمدا أو خطأ سواء في وجوب الجزاء عليه ، ولو كانا مختلفين لذكر العمد في ذلك .

                  والقياس أيضا يدل على هذا المعنى ، لأنا رأينا الله عز وجل قد حرم على المحرم أشياء منها الجماع ، وقتل الصيد ، مع سائر ما حرم عليه سواهما ، فكان من جامع في إحرامه عامدا أو ساهيا في وجوب الدم وفساد الحج عليه سواء ، فلما كان الجماع في ذلك كما ذكرنا ، كان كذلك قتل الصيد ، يستوي فيه العمد والخطأ جميعا ، كما استويا في الجماع وللخطأ بالكفارة أولى من العمد بها ، لأن الله عز وجل قد جعل في كتابه على من قتل مؤمنا خطأ كفارة ذكرها ، ولم يوجب مثلها على قاتله عمدا في ذكره : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) ، فلما كان العمد في الصيد موجبا للكفارة على المحرمين ، كان الخطأ بينهم للكفارة في ذلك أوجب وهذا الذي ذكرنا من وجوب الجزاء على المحرمين في الصيد إذا قتلوه عمدا أو خطأ ، قول أبي حنيفة ، ومالك بن أنس ، وسفيان ، وزفر ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، وأكثر أهل العلم ، والله نسأله التوفيق .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية