الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وأما قوله عز وجل : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) ، فإن هذا قد اختلف أهل العلم في المراد به ما هو ، وفي حاضري المسجد الحرام من هم ، فأما أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، فكانوا يقولون في ذلك : أهل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن بعدهم إلى مكة ، هم حاضرو المسجد الحرام ، حدثنا بذلك من قولهم سليمان ، عن أبيه ، عن محمد . عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، ولم يحك فيه خلافا بينهم .

                  وأما آخرون من أهل العلم فكانوا يقولون : حاضروا المسجد الحرام : أهل مكة خاصة دون من سواهم وقد روي عن نافع مولى عبد الله بن عمر ، وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج كما :

                  1655 - قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال أخبرنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، قال : سمعت نافعا مولى عبد الله بن عمر ، وسئل عن قول الله عز وجل ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) ، أجوف مكة أو حولها ؟ قال : جوف مكة .

                  [ ص: 241 ] وقال بذلك عبد الرحمن الأعرج .

                  ولما اختلفوا في ذلك نظرنا فيما اختلفوا فيه منه ، فوجدنا الذين قالوا بالقول الأول يقولون : لكل من كان من حاضري المسجد الحرام دخول مكة بلا إحرام ، إذ كانوا قد جعلوا المكان الذين هم من أهله كمكة ، فجعلوهم كأهل مكة ، وهكذا كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن يقولونه في هذا أيضا ، ويحتجون فيه بما روي عن عبد الله بن عمر .

                  1656 - كما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال أخبرنا عبد الله بن وهب ، أن مالكا ، حدثه عن نافع ، أن عبد الله بن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد ، بلغه خبر من المدينة ، فرجع فدخل مكة حلالا .

                  1657 - وكما قد حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ، قال حدثنا سعيد بن منصور ، قال حدثنا هشيم ، قال حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه خرج من مكة يريد المدينة ، فلما بلغ قديدا بلغه عن جيش قدم المدينة ، فرجع ، فدخل مكة بغير إحرام .

                  1658 - وكما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، قال أخبرنا أيوب ، عن نافع ، أن ابن عمر خرج من مكة ، وهو يريد المدينة ، فلما كان قريبا لقيه جيش ابن دلجة ، فرجع مكة حلالا .

                  فكان فيما ذكرنا عن ابن عمر ما يدل على ما قالوا ، وعلى أن أهل قديد كأهل مكة فيما ذكرنا .

                  وقد روي عن عبد الله بن عباس في هذا خلاف ما روي عن ابن عمر فيه .

                  1659 - كما حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال حدثنا سعيد بن منصور ، قال [ ص: 242 ] حدثنا هشيم ، قال أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، أنه كان يقول : لا يدخل مكة تاجر ، ولا طالب حاجة ، إلا وهو محرم .

                  1660 - وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم العبدي المؤذن ، قال حدثنا ابن جريج ، قال قال عطاء : قال ابن عباس : لا عمرة على المكي ، إلا أن يخرج من الحرم ، فلا يدخله إلا حراما .

                  قيل لابن عباس : فإن خرج رجل من مكة قريبا ؟ قال : نعم ، يقضي حاجته ، ويجعل مع قضائها عمرة .

                  فهذا ابن عباس قد منع الناس جميعا من دخول مكة بغير إحرام ، ففي ذلك دليل أن من كان من غير أهل مكة كان عنده في ذلك خلاف حكم أهل مكة وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذا المعنى ، كما حدثنا محمد بن العباس بن الربيع اللؤلؤي ، عن علي بن معبد ، عن أبي يوسف .

                  1661 - وكما حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال حدثنا عمرو بن عون الواسطي ، قال حدثنا أبو يوسف ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله جل وعز حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر ، ووضعها بين هذين الأخشبين ، لم تحل لأحد قبلي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا يرفع لقطتها إلا منشد فقال العباس : إلا الإذخر ، فإنه لا غناء لأهل مكة عنه لبيوتهم وقبورهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر .

                  [ ص: 243 ] 1662 - وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا مسدد بن مسرهد ، قال حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أبي ذئب ، قال : حدثني سعيد المقبري ، قال : سمعت أبا شريح الكعبي ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل حرم مكة ، ولم يحرمها الناس ، فمن كان يؤمن بالله عز وجل واليوم الآخر ، فلا يسفكن فيها دما ، ولا يعضدن فيها شجرة ، فإن ترخص مرخص ، فقال : قد حلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله عز وجل أحلها لي ، ولم يحلها للناس ، وإنما أحلها لي ساعة .

                  1663 - وكما حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني أبو سلمة ، قال : حدثني أبو هريرة ، قال : لما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قتلت هذيل رجلا من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله عز وجل حبس عن أهل مكة القتل ، وسلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي ، ولا تحل بعدي ، وإنما أحلت لي ساعتين من نهار ، وإنها ساعتي هذه حرام ، لا يعضد شجرها ، ولا يختلى شكوها ، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد .

                  1664 - وكما حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة ، قال حدثنا أبو داود الطيالسي ، قال حدثنا حرب بن شداد ، عن يحيى بن أبي كثير ، فذكر بإسناده مثله ، غير أنه قال : إن الله عز وجل حبس عن أهل مكة الفيل ، وغير أنه قال : ولا يلتقط ضالتها إلا لمنشد .

                  أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد بالحرمة إلى مكة دون ما سواها ، فدل ذلك أن سائر الناس سوى أهلها في حكم دخولهم إياها سواء ، فثبت بذلك [ ص: 244 ] ما رويناه عن ابن عباس في هذا الباب ، وفي ثبوت ذلك ما يجب به إن حاضري المسجد الحرام الممنوعين من المتعة هم أهل مكة خاصة كما قال نافع والأعرج ، لا كما قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، غير أنه قد روي عن عبد الله بن عباس في حاضري المسجد الحرام ما :

                  1665 - قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال حدثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني ، قال أخبرنا حفص بن غياث ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قول الله عز وجل : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) ، قال : القرى التي حاضري المسجد الحرام : ضجنان ، وعرفان ، ومر ظهران .

                  فهذا ابن عباس منصوص في حاضري المسجد الحرام خلاف ما استدللنا به عنه مما قد ذكرناه فيما تقدم منا في هذا الباب وإذا جاز أن يلحق بأهل مكة في حضور المسجد الحرام أهل هذه القرى اللائي ذكرنا ، جاز أن يلحق بهم من كان دونها إلى المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في حجهم وعمرهم ، والله أعلم لما كان حقيقة قوله رضي الله عنه في ذلك .

                  وقد روي عن عبد الله بن عباس ، وعن عبد الله بن الزبير ، وعن علقمة بن قيس النخعي ، في تأويل المتعة المذكورة في الآية التي تلونا في صدر هذا الباب ، غير ما ذكرنا فيها في هذا الباب مما نحن ذاكروه في الباب الذي يتلوه إن شاء الله تعالى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية