الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  وينبغي للحاج أن تكون إفاضته من عرفة إذا غربت الشمس ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل فيها .

                  1400 - حدثنا أبو بكرة ، قال حدثنا أبو أحمد ، قال حدثنا سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فقال : هذه عرفة ، وهذا الموقف ، ثم أفاض حين غابت الشمس .

                  وفي حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله الذي قد ذكرناه في هذا الباب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إفاضته من عرفة ما يوافق هذا المعنى أيضا وقد روي عن طاوس في ذلك ما :

                  1401 - قد حدثنا يونس ، قال أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل غرو الشمس ويدفعون من مزدلفة بعد طلوع الشمس ، فأخر الله عز وجل تلك ، وقدم هذه ، أخر الدفع من عرفة إلى غروب الشمس ، وقدم الدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس وهذا قول أهل العلم جميعا ، لا نعلم بينهم في ذلك اختلافا .

                  وأما قوله عز وجل : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) ، فإنه لم يبين لنا في كتابه أن بين عرفة وبين المشعر الحرام فاصلا من مشاعر الحج ، وبينه لنا في سنة رسوله صلى [ ص: 142 ] الله عليه وسلم كما :

                  1402 - قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال حدثنا أسد بن موسى ، قال حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال حدثنا جعفر ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، في حديثه عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاض من عرفة أردف أسامة خلفه ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد شنق القصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس ، السكينة السكينة كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، لم يصل بينهما شيئا ، ثم اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بنداء وإقامة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، فرقى عليه ، فحمد الله جل وعز ، وهلله ، وكبره ، فلم يزل واقفا - أظنه قال - حتى أسفر ، جدا ثم دفع قبل أن تطلع الشمس .

                  ففي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة إلى المزدلفة ، وأنه بات بالمزدلفة حتى أصبح وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم في أمر مزدلفة ما :

                  1403 - قد حدثنا يزيد بن سنان ، قال حدثنا يزيد بن هارون ، قال أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع ، فقلت : يا رسول الله ، هل لي من حج وقد أنضيت راحلتي ؟ فقال : من صلى معنا هذه الصلاة ، وقد وقف معنا قبل ذلك ، وأفاض من عرفات ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه .

                  1404 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا وهب بن جرير ، قال حدثنا شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر ، وإسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

                  1405 - وما قد حدثنا روح بن الفرج ، قال حدثنا حامد بن يحيى قال حدثنا [ ص: 143 ] سفيان ، قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، وزكرياء ، عن الشعبي ، وداود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : سمعت عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي ، يقول : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمزدلفة ، فقلت : يا رسول الله ، جئت من جبلي طيء ، ووالله ما جئت حتى أتعبت نفسي ، وأنضيت راحلتي ، وما تركت جبلا من هذه الجبال إلا وقد وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد معنا هذه الصلاة ، صلاة الفجر بالمزدلفة ، وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه .

                  قال سفيان : وزاد زكرياء فيه - فكان أحفظ الثلاثة لهذا الحديث - قال ، فقلت : يا رسول الله ، أتيت هذه الساعة من جبلي طيء قد أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، فهل لي من حج ؟ فقال : من شهد معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا حتى يفيض ، وقد كان وقف قبل ذلك بعرفة من ليل أو نهار ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه . قال سفيان : وزاد داود بن أبي هند ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين برق الفجر ، ثم ذكر الحديث .

                  1406 - وما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، قال حدثنا عبد الغفار بن داود الحراني ، قال حدثنا موسى بن أعين ، عن مطرف بن طريف ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس الطائي ، قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أحفيت وأتعبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أدرك جمعا ، والإمام واقف فوق مع الإمام ، ثم أفاض مع الناس ، فقد أدرك الحج ، ومن لم يدرك ، فلا حج له .

                  1407 - وما قد حدثنا محمد بن العباس اللؤلؤي ، قال حدثنا أسد بن موسى ، قال حدثنا محمد بن حازم ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس الطائي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع ، يعني المزدلفة ، فقلت : يا رسول الله ، أنضبت راحلتي [ ص: 144 ] وأتعبت نفسي ، ولم يبق جبل من جبال عرفة إلا وقد وقفت به فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من صلى معنا صلاتنا هذه ، وقد كان أتى عرفة قبل ذلك من ليل أو نهار ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه .

                  ففي حديث عروة بن مضرس هذا توكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مزدلفة فعقلنا بذلك أنها من شعائر الحج وقد روي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر مزدلفة أيضا ما :

                  1408 - قد حدثنا علي بن معبد ، قال حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، قال حدثنا سفيان ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن الديلي ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات ، فأقبل أناس من أهل نجد ، فسألوه عن الحج ، فقال : الحج يوم عرفة ، ومن أدرك جمعا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج .

                  ففي هذا الحديث توكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جمع كنحو توكيد أمرها في حديث عروة بن مضرس الذي ذكرناه . غير أن يزيد بن سنان :

                  1409 - قد حدثنا ، قال حدثنا محمد بن كثير ، قال أخبرنا سفيان الثوري ، قال : أخبرني بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فجاء أناس أو نفر من نجد ، فأمروا رجلا فنادى : يا رسول الله ، كيف الحج ؟ فأمر رجلا فنادى : الحج يوم عرفة ، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه .

                  فلم يكن المقصود بالمجيء إليه في هذا لليلة مزدلفة في هذا الحديث ، مزدلفة ولا غيرها وقد يحتمل أن يكون المقصود إليه بالمجيء في تلك الليلة مزدلفة كما في حديث علي [ ص: 145 ] بن معبد ، عن يعلى بن عبيد الذي ذكرنا ويحتمل أن تكون عرفة ، فلا يكون للمزدلفة في حديث عروة بن مضرس الذي روينا حكم . فنظرنا في ذلك ، فوجدنا أبا بكرة بكار بن قتيبة :

                  1410 - قد حدثنا ، قال حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال حدثنا سفيان ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر ، قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فجاء نفر من أهل نجد ، فقالوا : يا رسول الله ، كيف الحج ؟ قال : الحج عرفات ، من وقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه .

                  فكان المقصود بالمجيء إليه ، والوقوف به في هذا الحديث في ليلة مزدلفة ، عرفة ، لا مزدلفة ، فقد اضطرب علينا حديث بكير بن عطاء هذا من رواية سفيان الثوري على ما ذكرنا ثم نظرنا فيه من رواية شعبة ، عن بكير بن عطاء ، كيف هو ؟ فوجدنا علي بن معبد :

                  1411 - قد حدثنا ، قال حدثنا شبابة بن سوار ، قال حدثنا شعبة ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة أو عرفات ، فمن أدرك ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه .

                  وقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد الليلة خاصة ، لأنه لو كان أراد الليلة خاصة لكان المسلمون فيها سواء ، ولكنه أراد مفعولا فيها فلم يكن في حديث شعبة هذا ما يدلنا عليه ما هو ، فلم نجد فيما ذكرناه من حديث عبد الرحمن هذا ما يدلنا على توكيد أمر مزدلفة ، إلا ما في حديث يعلى بن عبيد خاصة مما قد خالفه فيه غيره ممن ذكرناه ، ثم رجعنا إلى حديث عروة بن مضرس ، فوجدنا الذي فيه من حديث عبد الله بن أبي السفر ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وزكرياء بن أبي زائدة ، ومجالد بن سعيد ، وداود بن أبي هند ، عن الشعبي قريبا بعضه من بعض ووجدنا الذي فيه من حديث مطرف بن طريف زائدا على ما في أحاديث الخمسة الذين ذكرنا ، لأن في حديثه : ومن لم يدرك ، يعني الوقوف بمزدلفة ، فلا حج له فكان ذلك إن حمل على ما يحمله عليه قوم من كثرة عدد الرواة ، وأنه أولى مما به ينفرد به الواحد دونهم ، كان ما روى هؤلاء الخمسة في ذلك أولى [ ص: 146 ] مما تفرد به مطرف بن طريف وإن حمل ذلك على التكافئ ، فجعل المنفرد عن هؤلاء الخمسة ، إذ كان بينا في حديثه ، مكافئا لهؤلاء الخمسة ، فإنه قد يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن لم يدرك ، يعني مزدلفة : فلا حج له " أي لا حج له متكامل الأسباب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا وضوء لمن لم يسم " ليس على معنى أنه لا يكون بالوضوء الذي لا يسمي عليه طاهرا ولا منتقلا من حال حدث إلى حال طهارة ، ولكن على معنى أنه لا يكون به متوضئا الوضوء المتكامل الأسباب المأمور بها فيه وكما قد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من قدم ثقله فلا حج له .

                  1412 - حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، قال حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن عمرو بن شرحبيل ، أن عمر ، قال : من قدم ثقله فلا حج له .

                  فلم يكن ذلك منه عندنا - والله أعلم - على أنه يكون بتقديمه ثقله في معنى : من لم يحجج ، وكيف يكون ذلك كذلك وقد حج قبل ذلك وحل من حجه ؟ ولكنه في معنى : من حج الحج الناقص عما ينبغي أن يكون يعقبه في وقت الشخوص عن مكة إلى حيث يريد الحاج ، وسنذكر فيما بعد هذا الموضع من كتابنا هذا ، حكم الوقوف بمزدلفة ، وهل هو في حكم الوقوف بعرفة في الحج كما يقول بعض الناس ، أو هو على خلاف ذلك إن شاء الله .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية