الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  تأويل قوله عز وجل : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ) الآية .

                  قال الله عز وجل : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) وقد ذكر فيما تقدم منا في كتابنا هذا المراد بالفرض . وأن قوله جل وعلا : فلا رفث فإن المراد به هو الجماع . كقوله في الآية الأخرى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) أي الجماع .

                  [ ص: 32 ] وأما قوله جل وعز : ولا فسوق فإن المراد به الخروج من الأعمال التي هي طاعات لله عز وجل إلى الأعمال التي هي معاص . يدخل في ذلك السباب وغيره من الأشياء المحرمة على فاعلها مما كان محرما عليهم قبل الإحرام بالتعبد ، ومما كان حلالا لهم فحرم عليهم بالإحرام كقتل الصيد ، والتطيب ، ولبس الثياب وما أشبه ذلك .

                  وأما قوله عز وجل ( ولا جدال في الحج ) فإن المراد في ذلك مما قد اختلف فيه ما هو ؟ فقيل : معناه ، أي لا شك في الحج . وقيل : معناه أن تماري صاحبك حتى تغضبه . وقد روى في هذه التأويلات التي ذكرنا عن عبد الله ، ما :

                  1169 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال حدثنا أبو عامر ، عن سفيان الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : الرفث الجماع ، والفسوق السباب ، والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

                  1170 - وما قد حدثنا محمد بن زكرياء ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا سفيان ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس في قوله ( فلا رفث ) قال : الرفث الجماع .

                  قال أبو جعفر : فكان الذي رويناه عن ابن عباس في المراد بالرفث في الآية التي تلونا موافقا لما ذكرنا في التأويل الأول الذي استشهدنا له بقوله عز وجل : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) غير أنه قد روي عن ابن عباس وابن الزبير في الرفث قول غير هذا . وذلك أن أبا شريح محمد بن زكرياء .

                  1171 - قد حدثنا ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، في قوله عز وجل : ( فلا رفث ولا فسوق ) ، قال : الرفث الذي ذكر هاهنا ليس بالرفث الذي ذكر في المكان الآخر ، ولكن تعريض بذكر الجماع .

                  1172 - وأن محمد بن خزيمة قد حدثنا ، قال حدثنا حجاج بن المنهال ، قال حدثنا حماد ، عن أبي الزبير ، عن طاوس ، قال : سمعت ابن الزبير يقول : إياكم والنساء ، فإن الإعراب من الرفث . والإعراب : أن تعرض لها بقول لو كنا حلالين اغتسلنا وفعلنا .

                  [ ص: 33 ] قال : فأخبرت بذلك ابن عباس فقال : صدق ابن الزبير .


                  وكان هذا عندنا غير مخالف للقول الأول ، لأن الرفث هو الجماع ، وما دون الجماع مما هو من أسبابه فجائز في اللغة أن يسمى باسمه إذ كان من أسبابه في حرمة الحج ، توكيدا منهما بحرمة الجماع في الحج .

                  وكان الذي فيه من المراد بالفسوق أنه السباب ، وليس ذلك بمخالف لما ذكرنا من التأويل في الفصل الأول . لأن السباب خروج من الطاعة إلى المعصية ، فذلك فسوق . لأن أصل " فسق " في كلام العرب إنما هو خرج . ومن ذلك قول الله عز وجل : ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) .

                  والعرب تقول : فسقت الرطبة ، إذا خرجت من حال إلى حال . وقد سميت الفأرة وغيرها مما أبيح قتله في الحرم والإحرام على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فواسق .

                  1173 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : خمس فواسق يقتلن في الحرم والإحرام ؛ الكلب العقور ، والفأرة ، والحديا ، والعقرب ، والغراب .

                  فكان الكلب العقور يرى كما يرى الكلاب التي لا تعقر ، فيخرج من ذلك إلى العقر ، وكذلك الحديا والغراب يريان كما يرى غيرهما من الطير ، ثم يخرجان عن ذلك إلى الأذى لبني آدم في أبدانهم وأموالهم مما لا يفعله سواهما من الطير . وكذلك الفأرة تخرج عما يرى عليه إلى إحراق البيوت . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما سماها فاسقة لهذا المعنى .

                  [ ص: 34 ] 1174 - حدثنا محمد بن حميد بن هشام الرعيني ، قال حدثنا علي بن معبد ، قال حدثنا موسى بن أعين ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن يزيد بن أبي نعيم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : يقتل المحرم الحية ، والعقرب ، والفأرة الفويسقة .

                  قال يزيد : وعد غير هذا فلم أحفظه .

                  قلت : ولم سميت الفأرة الفويسقة ؟ قال : استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتحرق على رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ، فقام إليها فقتلها ، وأحل قتلها لكل محرم أو حلال . أفلا ترى أن أبا سعيد الخدري قد أخبر في هذا الحديث أنها إنما سميت فويسقة بخروجها إلى ما خرجت إليه من ذلك .

                  وكان الذي فيه من المراد بالجدال هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه . وقد روي هذا القول عن غير واحد من التابعين .

                  1175 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن عطاء بن أبي رباح ، أنه قال : الرفث الجماع . والفسوق المعاصي ، والجدال أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبه .

                  1176 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال حدثنا حجاج ، قال حدثنا حماد ، عن جبر بن حبيب ، عن القاسم بن محمد قال : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج اليوم . ويقول بعضهم : الحج غدا .

                  1177 - حدثنا محمد بن زكرياء ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا إسرائيل ، قال حدثنا أبو يحيى عن مجاهد في قوله : ( ولا جدال في الحج ) قال : الجدال أن تماري .

                  [ ص: 35 ] صاحبك حتى يغضب أو تغضب .

                  وقد روي عن مجاهد خلاف هذا القول .

                  1178 - حدثنا محمد بن زكرياء ، قال حدثنا الفريابي ، قال حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل ( ولا جدال في الحج ) قال : لا شك في الحج .

                  والقول الأول الذي رويناه عن مجاهد ومن وافقه عليه من التابعين ، وعمن تقدمه فيه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتأويل الآية من القول الثاني الذي رويناه عن مجاهد في تأويلها . لأن الجدال المعقول في كلام العرب هو مجاراة الكلام والمجاوبة عنه بين الناس ، كما قال عز وجل : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) .

                  وكما قال جل وعز : ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ) .

                  فكان ذلك كله على القول بالألسن والمنازعات بين الناس ، لا على الشك ، فكان تأويل الآية التي تلونا أشبه بهذا المعنى ، لأن الجدال لو كان على الشك لكان ذلك الشك يمنع من الدخول في الحج . لأن الحج لا يدخل فيه إلا المؤمنون الذين لا يرتابون ، ولا يشكون فيه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية