الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  أحكام القرآن الكريم للطحاوي

                  الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

                  صفحة جزء
                  ولما اختلفوا في ذلك نظرنا فيما اختلفوا فيه منه ، فرأينا الزعفران مكروها للرجال في الإحرام ، وفي غير الإحرام ، ومرويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما :

                  1226 - قد حدثنا ابن أبي داود ، قال حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ، قال حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يزعفر الرجل .

                  1227 - وما قد حدثنا أبو بكرة ، قال حدثنا مسدد ، قال حدثنا حماد بن زيد ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .

                  وكان العصفر ليس كذلك ، لأنه مباح للرجال قبل الإحرام ، ومحكوم له بخلاف حكم الزعفران ، فكان القياس على ذلك أن يكون كذلك هو في حال الإحرام ، وأن يكون محكوما له بخلاف حكم الزعفران ، فيكون مباحا للمحرمين والمحرمات في حال الإحرام كما كان مباحا لهم قبل الإحرام ، غير أنا نكره للرجل إذا كان ممن يفتدى به أن يلبسه في حال إحرامه حيث يراه الناس خوفا أن يكون ذلك دريعة لهم في انتهاك لبس الثياب المصبوغة بالزعفران والورس ، ويقولون : فعلنا ذلك لأنا رأينا فلانا يلبس الثياب المصبغة في الإحرام ، وهذا عندنا مثل ما قاله عمر لطلحة بن عبد الله رضي الله عنهما لما رأى عليه الثوب المصبوغ بالمدر .

                  1228 - حدثنا يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا ، حدثه ، عن نافع : أنه سمع أسلم مولى عمر بن الخطاب ، يحدث عبد الله بن عمر ، أن عمر رأى على طلحة ثوبا .

                  [ ص: 53 ] مصبوغا ، وهو محرم ، فقال عمر : ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة ؟ . قال طلحة : يا أمير المؤمنين ، إنما هو مدر فقال عمر : إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس ، فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال : إن طلحة قد كان يلبس الثياب المصبغة في الاحرام ، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من هذه الثياب المصبغة .

                  فهكذا ينبغي لكل من يقتدى به من الرجال أن يتجنب في اللباس في إحرامه خوفا من مثل ما خافه عمر فيه وهكذا من يقتدى به من النساء ، فينبغي لها ترك لباس مثل هذا في الإحرام .

                  وسأل سائل فقال : إذا كان الورس والزعفران مما قد كان الرجل قبل إحرامه ممنوعا منه ، فما معنى النهى عنهما في حال الإحرام ؟ وإنما يمنع الناس مما كان مباحا لهم كما منع المحرم من لبس القمص ، ومن التطيب ، ومن سائر ما منع منه في الإحرام مما كان مباحا له قبله ؟ .

                  فكان جوابنا له في ذلك أن قلنا له : المنع قد يكون في الأشياء المباحة كما ذكرت ، ويكون في الأشياء المكروهة قبل النهي ليراد بذلك نهي ، وليتوكد أمرها ، وليكون على منتهكها في الحال التي نهي عنها فيه مثل ما يجب عليه في انتهاك مثلها مما قد نهي عنه من الأشياء التي كانت مباحة له قبل النهي من ذلك إنا رأينا السنة القائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءت بتحريم لبس الحرير على الرجال ، وجاءت بنهي المحرمين عن لبس القميص ، فدخل في ذلك ما كان منها حريرا منهيا عن لبسه قبل الإحرام ، وما كان منها مما سوى الحرير مما كان مباحا لبسه قبل الإحرام ، أن لا ترى أنه لو لبس ، وهو محرم ، قميص حرير كان عليه مثل الذي كان عليه من الفدية لو كان ذلك القميص غير حرير ، فلم تخرج القمص الحرير من القمص التي قد نهي عن لبسها في الإحرام لتقدم حرمة لبسها للإحرام ، لأنه لو كان ذلك كذلك ، وكان المراد بالنهي غيرها ، كان من لبسها في حال إحرامه لا يسألها على التحريم الأول ، والتحريم الأول لا فدية على منتهكه ، وإنما الذي تجب فيه الفدية هو ما نهي عن لبسه في الإحرام فكذلك الورس والزعفران اللذان كانا ممنوعا منهما في غير الإحرام ، وكذا المنع منهما في الإحرام لتكون حرمتهما قد صارت للإحرام مع الحرمة المتقدمة فيهما .

                  [ ص: 54 ] أن لا ترى أن الله جل وتعالى قد نهى عن قتل الصيد في حال الإحرام ، فقال عز وجل : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، ومن قتله منكم متعمدا ) الآية . وقد كنا قبل الإحرام ممنوعين من قتل الصيد الذي في ملك غيرنا ، ولو أن محرما قتل صيدا في يد رجل حلال يملكه ، كان عليه ضمان قيمته لصاحبه ، وكان عليه جزاؤه فيما بينه وبين ربه فلو كان الخطاب إنما وقع على الصيد الذي قد كان مباحا له قبل الإحرام ، إذا لما وجب على قاتل الصيد المملوك لغيره جزاء ، إذ كان خارجا من الآية المنهي عن قتل الصيد فيها ، والمجعول على قاتل الصيد فيها الجزاء المذكور فيها .

                  وسأل هذا السائل فقال : قد جعلت الدليل على إباحة لبس المعصفر للمحرمين لاختلاف حكمه وحكم الزعفران قبل الإحرام ، وقد وجدنا المسك والعنبر مباحين قبل الإحرام ، فإذا كان الإحرام صارا ممنوعا منهما كما يمنع من الزعفران والورس ، فلم يكن افتراق حكمهما قبل الإحرام بمانع من اتفاقه بعد الإحرام ، فما أنكرت أن يكون العصفر أيضا كذلك .

                  فقيل له : المسك والعنبر وإن كانا كما ذكرت فإنما منع الحرم منهما لأنهما طيب ، وكانا مباحين له قبل الإحرام في حال حل الطيب له ، ومحرمين عليه في حال حرمة الطيب عليه ، وأما العصفر فلم يثبت عندنا أنه طيب ، ولم نرهم يتطيبون به ، ولا بلغنا ذلك عن أحد قبلنا ، فالعلة التي بها منع من المسك والعنبر اللذين ذكرتهما غير موجودة في العصفر الذي شبهته علينا بهما :

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية