الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              مسائل من هذا الباب:

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الغلام إذا بلغ، وأونس منه الرشد، ودفع إليه ماله ثم فسد بعد ذلك .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة: هو محجور عليه بالفساد، لأن العلة التي من أجلها وجب منعه من ماله بعد بلوغه الفساد، فمتى عاد مفسدا فقد رجعت العلة ووجب الحجر. هذا قول أبي ثور . وهو يشبه مذاهب الشافعي ، وحكى أبو ثور عن الكوفي أنه قال: لا يحجر عليه وما فعل فهو جائز .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في نكاح المحجور عليه بغير إذن وليه .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة: النكاح باطل، هذا قول الشافعي ، وأبي ثور .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: النكاح جائز، إلا أن بعضهم قال: إن كان المهر الذي أمهر أكثر من مهر مثلها رد إلى مهر مثلها .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا نذر المحجور عليه نذورا كثيرة أو حلف بأيمان فحنث ووجبت عليه كفارات لم تطلق يده في ماله، وصام عن كل يمين ثلاثة أيام، وذلك أنه ممنوع من ماله، وهذا قول أبي ثور ، ومحمد بن الحسن. وحكى أبو ثور عن قائل أنه قال: يعطى ما يكفر به .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا لا معنى له، لأنه إذا مكن من ذلك أتلف ماله في يسير من الوقت، وإذا ظاهر صام عن ظهاره في قول أبي ثور ومحمد بن الحسن . [ ص: 17 ]

                                                                                                                                                                              وإن أعتق عبدا عن ظهاره جاز العتق في قول محمد ولم يجزئه عن ظهاره، و [سعى] العبد في قيمته. وفي قول أبي ثور : العتق باطل .

                                                                                                                                                                              وإن قتل المحجور عليه رجلا خطأ ببينة فالدية على العاقلة وعليه صوم شهرين متتابعين في قول أبي ثور ومحمد بن الحسن .

                                                                                                                                                                              وإن قتل رجلا متعمدا بعصا قتل به في قول أبي ثور . وفي قول محمد: الدية على عاقلته مغلظة، ويصوم شهرين متتابعين. وفي قول الشافعي : إذا كان الأغلب ممن ضرب بمثل هذه العصا أنها تقتل فعليه القود، وإن كان الأغلب أنها لا تقتل فالدية .

                                                                                                                                                                              وإذا أقر المحجور عليه في عبد له لم يولد في ملكه فقال: هذا ابني ومثله يولد لمثله، ففيها قولان: أحدهما: أن إقراره باطل في قول أبي ثور وبعض أصحابنا .

                                                                                                                                                                              وقال محمد بن الحسن: هو حر، وهو ابنه، ويعتق الغلام، ويسعى في جميع قيمته .

                                                                                                                                                                              فإن أعتق المحجور عليه عبدا كان حرا ويسعى في جميع قيمته في قول ابن الحسن .

                                                                                                                                                                              وفي قول الشافعي ، وأبي ثور ، وأكثر أصحابنا: العتق باطل، لأنه ممنوع من ماله. وبه نقول .

                                                                                                                                                                              وإذا جاءت جارية المفسد لماله بولد، فإن كان يطؤها لزمه الولد ولم ينظر إلى ما ادعى، لأن الولد للفراش، فإذا كانت فراشا لزمه الولد، هذا قول أبي ثور ، وحكاه عن الشافعي . [ ص: 18 ]

                                                                                                                                                                              وإذا اشترى المحجور عليه ابنه وهو معروف أنه ابنه بطل شراؤه والغلام على ملك البائع، لأن شراءه وبيعه باطل هكذا قال أبو ثور ، وبه أقول. وزعم ابن الحسن أن شراءه فاسد ويعتق الغلام حين قبضه ويسعى في جميع قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشتري منه شيء .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : إذا بطل شراؤه فهو على ملك البائع فلم يعتق ويلزم الاستسعاء إذا أعتقه من ليس بمالك .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وكل ما أوجب الله على المحجور عليه من زكاة أو حج .

                                                                                                                                                                              فأما الزكاة فعلى وليه إخراج ذلك من ماله ودفعه إلى أهله المستحقين له .

                                                                                                                                                                              وأما الحج فعلى وليه أن يتكارى له ويمونه في حجه، ويكون ذلك على يدي ثقة ممن يخرج مع الحاج يتولى الإنفاق عليه بالمعروف، وهذا قول الشافعي ، وأبي ثور .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: إذا أراد الحج لم يمنع من ذلك .

                                                                                                                                                                              وإذا أراد العمرة لم يكن لوليه أن يمنعه في قول الشافعي ، لأنه يرى العمرة فرضا كالحج .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: يستحسن ذلك لاختلاف الناس فيه .

                                                                                                                                                                              وهذا خطأ على قوله، لأنه يرى العمرة [تطوعا] ولا معنى للإذن فيما لا يلزمه على مذهبه .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور : وإذا أراد أن يعتمر لم يعط نفقة وذلك أن العمرة قد [ ص: 19 ] اختلف فيها ولا تجب باختلاف. وإذا كان [للمحجور] عليه والدان أو ولد، وهم في حال من الضعف تجب لهم النفقة أنفق عليهم من ماله في قول الشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي. وإذا أصاب المحجور عليه في إحرامه ما يجب عليه فيه الفدية من قتل صيد أو لباس أو طيب وذلك كله من غير عذر وجب عليه الصوم في قول أبي ثور ، وابن الحسن. وإن أصابه أذى أو احتاج إلى لباس أو استعمال طيب لعلة نزلت به، كفر عنه الوصي من ماله، وهذا خلاف ما يمسه مما لا عذر فيه، وهذا على مذهبهما أيضا، وبه نقول .

                                                                                                                                                                              وإذا [وطئ] المحجور عليه في حجته فأفسدها أتمها، [فإن قال] قائل: أعطوني ما أقضي به حجتي لم [يعط] في قول أبي ثور ، لأنه لا يؤمن أن يفعل هذا في كل عام، وقيل له: تقضي إذا صلحت وخرجت عن الحجر. ويعطى في قول ابن الحسن ما يقضي به حجته حجة الإسلام وإن كثر ذلك منه. وإذا ترك طواف الزيارة حتى رجع إلى بلده فالنساء حرام عليه في قول الشافعي وأبي ثور ، والكوفي .

                                                                                                                                                                              وإن سأل النفقة لم [يعط] ، وكان عليه إذا صلح أن يرجع فيطوف في قول أبي ثور ، وفي قول ابن الحسن يعطى النفقة للرجوع حتى يطوف [ ص: 20 ] يدفع ذلك إلى من ينفقه عليه، وإن أهل بحج تطوعا أو عمرة لم يعط ما يحج به ويعتمر، ويعطى نفقته كما كان يعطى وهو مقيم، فإن شاء خرج لا يزاد عليه. هذا قول أبي ثور . وفي قول محمد بن الحسن يجعل له من النفقة ما يكفيه لبدنه لو كان مقيما ما كنت أجعل له في منزله، وإن شاء خرج ماشيا، وإن كان موسرا كثير المال، وكان الحاكم يوسع عليه وهو مقيم وإن أراد أن يتكارى بما فضل عن قوته وينفق منه على نفسه القوت فعل ذلك به وتدفع النفقة إلى ثقة ينفقها عليه .

                                                                                                                                                                              وإذا اختلعت المحجور عليها من زوجها على مال. ففي قول الشافعي ومحمد بن الحسن يكون طلاقا يملك فيه الرجعة وبطل المال .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور : فيها قولان: أحدهما: أن الخلع باطل، والآخر: أنه جائز، وله عليها المال إذا صلحت. ولو أن غلاما أدرك مفسدا فباع مما ترك أبوه أو وهب هبات أو تصدق بصدقات أبطل القاضي ذلك كله في قول الشافعي وأبي ثور ، وابن الحسن .

                                                                                                                                                                              وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه جائز على نفسه إذا أقر بزنا، أو سرقة، أو شرب خمر، أو قذف أو قتل فإن الحدود تقام عليه. هذا قول الشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي، وكل من نحفظ عنه من أهل العلم . [ ص: 21 ]

                                                                                                                                                                              وإذا أقر بمال لقوم أنه استهلكه لم يلزمه في حال الحجر ولا بعده في الحكم في الدنيا، ويلزمه فيما بينه وبين الله - تعالى - تأديته إذا خرج من الحجر إلى من أقر له به .

                                                                                                                                                                              كذلك قال الشافعي .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور : لا يحكم عليه في ماله وعليه إذا صلح يؤخذ منه. وقال محمد بن الحسن: إذا أودع المحجور عليه مالا فأقر أنه استهلكه لم يصدق على ذلك، فإن صلح بعد ذلك فأقر أنه استهلكه في حال فساده لم يلزمه أيضا .

                                                                                                                                                                              وإذا كانت امرأة محجور عليها زوجت نفسها رجلا كفؤا لمهر مثلها فالنكاح باطل في قول الشافعي ، وأبي ثور ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثا" .

                                                                                                                                                                              وقال ابن الحسن : يرفع ذلك إلى القاضي فإن كان الرجل لم يدخل بها وكان كفؤا لها وتزوجها على مهر مثلها فالنكاح جائز إلا أن تكون استأذنت القاضي في ذلك، وإن كان نكاحا أقل من مهر مثلها بما لا يتغابن الناس فيه قيل لزوجها: أنت بالخيار فإن شئت فأتم لها مهر مثلها، والنكاح جائز، وإن أبى فرق بينهما ولم يكن طلاقا ولا صداق [ ص: 22 ] لها، وإن كان دخل بها فعليه أن يتم لها مهر مثلها ولا خيار في ذلك، والنكاح جائز .

                                                                                                                                                                              وإذا دفع الوصي إلى الصغير شيئا من ماله فقال: [اشتر] بهذا وبع .

                                                                                                                                                                              فإن سلم أخذه الوصي منه وإن ضاع غرمه الوصي في قول أبي ثور ، وذلك أنه دفعه إليه في وقت لا يستحق أن يدفع ذلك إليه .

                                                                                                                                                                              وفي قول ابن الحسن : لا شيء على الوصي وإذا حجر القاضي على نفسه فرفع إلى قاض آخر لا يرى الحجر فأطلق عنه الحجر فأجاز شراءه وبيعه وأخذه وإعطاءه، فإن إطلاق هذا باطل في قول أبي ثور وغيره من أصحابنا، وهو محجور عليه للفساد القائم، وليس يحل القاضي شيئا ولا يحرمه ولا يمنع ما أباح الله، ولا يطلق ما حظر، وإذا كان القاضي جاهلا يبطل حكمه إذا خالف الكتاب والسنة .

                                                                                                                                                                              وقال ابن الحسن : يجوز إطلاق هذا القاضي عنه وجاز ما أجاز له من بيع وشراء مما كان باع أو اشترى قبل إطلاقه عنه وبعد إطلاقه عنه، إلا أن يكون شيئا من بيوعه الأولى وشرائه رفع إلى القاضي الذي رأى حجره أو إلى قاض غيره يرى الحجر فأبطل بيوعه تلك وشراءه، ثم رفع إلى هذا القاضي الآخر الذي لا يرى الحجر فأبطل قضاء القاضي آخر يرى الحجر أو لا يراه، فإنه ينبغي له أن يجيز قضاء الأول فيبطل أشريته وبيوعه التي أبطلها الأول، ويبطل قضاء القاضي الثاني فيما أبطل من قضاء الأول، لأن هذا أمر يختلف فيه الفقهاء، والله أعلم . [ ص: 23 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية