الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر بيع المكاتب

                                                                                                                                                                              أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن بيع السيد مكاتبه غير جائز على أن تبطل كتابته ببيعه ، إذا كان ماضيا في كتابته مؤديا ما يجب عليه من نجومه في أوقاتها .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في بيع المكاتب وهو ماض في أداء ما عليه على الشروط التي شرطها له سيده الذي كاتبه ، فأجازت طائفة بيع المكاتب ، فممن لم ير ببيع المكاتب بأسا : إبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ، قال أحمد : بريرة كانت مكاتبة . وقال أبو ثور : لا بأس ببيع المكاتب يشتريه الرجل فيكون مقام الذي كاتبه فيه إن أدى إليه عتق ، وإن لم يؤد كان رقيقا له فأما نجومه فلا يجوز ، لأنه إن عجز عن الأداء لم يكن ملكا للذي اشترى نجومه . وقال ابن جريج : قلت لعطاء : غلاما كاتبته فبعته رقبة أو كاتبته من رجل فعجز . قال : هو عبد الذي ابتاعه . وعمرو بن دينار قال : فقلت لعطاء : فقضى فعتق ؟ قال : فهو مولى للذي ابتاعه .

                                                                                                                                                                              وقال مالك : أحسن ما سمعت في المكاتب أنه إذا بيع كان أحق [ ص: 503 ] باشتراء كتابته ممن اشتراه إذا قوي على أن يؤدي إلى سيده الثمن الذي باعه به فهو أحق بذلك وذلك أن اشتراء نفسه عتاقة ، والعتاقة يبدأ بها على ما كان معها من الوصايا . وقال مالك في رجل كاتب غلاما له بعين أو عرض فأراد المكاتب أن يشتري كتابته بعرض أو عين معجل أو مؤخر فلا بأس به ، وأما غيره فلا تبتاع كتابته إلا بشيء مخالف لما كاتبه عليه تباع الدنانير والدراهم بعرض يعجله ولا يؤخره ، ويبتاع العرض بشيء مخالف له من النقد والعرض يعجله ولا يؤخره . وقال الليث بن سعد : من كاتب مكاتبا على نجوم يؤديها إليه فعجز فإن شاء سيده أن يرده عبدا فعل ، وإن شاء باع رقبته بما عليه من نجومه أو بأقل أو بأكثر منه ، بنقد أو عرض ، وإن باعه استسعاه المشتري في نجومه حتى يؤديها إليه وولاؤه له .

                                                                                                                                                                              وقال ابن جريج : أقول أنا : لا بأس ببيع المكاتب بالعروض .

                                                                                                                                                                              وفيه قول سواه : وهو أن لا يجوز بيع المكاتب إلا برضى منه . هذا قول الزهري وأبي الزناد وربيعة .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث : وهو أن بيعه غير جائز . هذا قول أصحاب الرأي قالوا : لا يباع المكاتب .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف عن الشافعي في هذه المسألة ، فحكى الحسن بن محمد عنه ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ح . [ ص: 504 ]

                                                                                                                                                                              وعن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في قصة بريرة . قال الشافعي : سمعت من يقول : لمالك المملوك والمكاتب أن يبيعه ، وذلك أنه لم يعتق وهو عبد بحاله لا يختلف الناس في أن أحكامه أحكام عبد في جنايته والجناية عليه وميراثه وحدوده وسهمه إن حضر القتال وما سوى ذلك . فمن قال هذا القول فكان من حجته أن يقول ما وصفنا من أنه عبد (بشروط) له شرط حلال لم يزل العبودية ، وله أن يملكه غيره متى شاء ولا يزول شرطه ، وذلك أنه ملكه عن مالكه ، وإنما يملك منه ما كان مالكه يملك (كبيع عبد) وهو مؤاجر ، فاختار المشتري أن لا يرده [فالإجارة ثابتة وكعبد] بيع ، وقد جنى جناية فاختار المشتري أن يأخذه ولا يرده فالجناية في عنقه ، وإذا تحول ملك صاحب المكاتب عنه فملكه المشتري فهو كمن عقد له الكتابة إن عتق فله ولاؤه وإن عجز فله رقبته . وقال أبو عبد الله - يعني الشافعي - : ولا أعرف حجة من قال : ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول لعل بريرة رضيت أن تعجز . قال الشافعي : وأظهر معانيه إن لم يرض بالعجز وإن لمالك المكاتب بيعه . ثم قال بمصر فيما أخبرنيه الربيع عنه : وليس يحتمل أن يجوز بيع المكاتب والمكاتبة إن لم يعجزا ، فلما لم أعلم مخالفا في أن لا يباع المكاتب حتى يعجز أو يرضى بترك الكتابة لم يكن هذا معنى الحديث ، لأني لم أجد حديثا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عرفت من جميع الناس على خلافه . [ ص: 505 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : بيعت بريرة وهي مكاتبة بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولولا أن ذلك جائز لنهى عنه ، وفي إجازته البيع لما لم ينه عنه دليل على إباحة بيع المكاتب ، ولو لم يجز بيع المكاتب حتى يعجز لأشبه أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بريرة أعجزت أم لا ؟ فأما اعتراض بعض أهل مصر وإدخاله النظر على الخبر حيث يقول : يشتري المكاتب لا يدري يحصل له النجوم التي يقبضها أو رقبة العبد . فليس مما يجوز أن يعتل به قائل مع ثبوت الخبر ، وإنما يجب في الأخبار التسليم لها لا الاعتراض عليها ، قال الله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) إلى قوله : ( ويسلموا تسليما ) فنفى عز وجل الإيمان عن من لا يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ثنى بأمر هو أعجب من الأول ادعى أن بريرة كانت عاجزة ، وهذه دعوى غيب لا دليل لمدعيه في شيء من الأخبار كان ابن عباس يقول : لو يعطى الناس بدعواهم ادعى ناس دماء ناس وأموالهم وإذا لم يختلف أهل العلم أن للرجل بيع عبده قبل مكاتبه ، ودل خبر عائشة في قصة بريرة على أنها بيعت بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره ، ومن قول عوام أهل العلم : أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم . وإذا كان كذلك فلم يمنع المرء من بيع عبده الذي لو شاء أعتقه ، مع أن خبر عائشة في أمر بريرة مستغنى به عن كل قول . وكان الأوزاعي يقول : يكره بيع المكاتب قبل عجزه للخدمة . وقال : لا بأس أن يباع للعتق . [ ص: 506 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية