الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              المستودع يخالف ما أمر به

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجل يودع الرجل الوديعة ، ويأمره أن يجعلها في بيت بعينه ، أو في دار بعينها ، ونهى أن يجعلها في دار له أخرى وفي بيت له آخر فجعلها المودع في الدار التي نهاه أن يجعلها فيها ، أو في البيت الذي نهاه أن يجعلها فيه .

                                                                                                                                                                              ففي هذا قولان : أحدهما : أن لا شيء على المودع ، لأنه قصد بها فعل الحرز وليس يجوز أن يضمن ما لم (يخن) ولم يتعد ، وقصد الحرز .

                                                                                                                                                                              وفعل ما فيه الاحتياط لرب الشيء . هذا قول قاله بعض أهل النظر .

                                                                                                                                                                              والقول الثاني : أنه إذا أمر أن يجعلها في دار ، فجعلها في دار أخرى أنه ضامن . وإن كان بيتان في دار فأمره أن يجعلها في أحدهما ونهاه أن يجعلها في [البيت] الآخر فتلفت فلا ضمان عليه . هذا قول النعمان ومحمد بن الحسن ، وقال القائل بالقول الأول : ليس يخلو الضمان من أن يجب إذا خالف ما أمر به أو لا يجب إلا بحجة من كتاب أو سنة .

                                                                                                                                                                              فإن كان يجب بالخلاف وجب الضمان على من أمر أن يجعلها في بيت فجعلها في بيت آخر ، وقد زعم أن لا شيء عليه ولا على من قيل له : اجعلها في كيسك ، فجعلها في صندوقه ، فإن أسقط الضمان عمن جعلها في صندوقه وقد أمر أن يجعلها في كيسه ، لأنه قصد الحرز . [ ص: 341 ]

                                                                                                                                                                              كذلك لا شيء على من أمر أن يجعلها في بيت فجعلها في بيت آخر ، لأنه قصد الحرز .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في المودع يقول للمستودع : لا تخرجها من البلد وضعها في بيتك ، فأخرجها فضاعت .

                                                                                                                                                                              ففي قول الشافعي وأصحاب الرأي : يضمن ، إلا أن تكون ضرورة ، فإن أخرجها لضرورة خوف أو ما أشبهه لم يضمن في قول الشافعي . وكذلك إذا انتقل للسيل وللنار قال : ولو اختلفا في السيل والنار فإن كان لذلك أثر بعين يرى أو أثر يدل ، فالقول قول المستودع ، وإن لم يكن ذلك فالقول قول المستودع . ومتى قلت القول قوله فعليه اليمين ، إن شاء يستحلفه . هذا كله قول الشافعي .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : إن انتقل من الكوفة إلى البصرة ، أو إلى غيرها لشيء لم يكن له بد فهلكت : فلا ضمان عليه ، لأن هذا حال عذر .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الحريق يقع في البيت ، ويمكن المودع إخراج الوديعة من مكانها فلم يفعل . فقال قائل : يضمن ، لأنه كأنه أتلفه ، لأنه أمر بحفظه . وهذا مضيع . وقد مال إلى هذا القول بعض أصحابنا ، وهو يشبه مذهب الشافعي ، لأنه قال : إذا استودع دواب ولم يعلفها في مدة تتلف الدواب في مثلها إذا لم تعلف ضمن .

                                                                                                                                                                              وقال آخر : لا ضمان عليه ، لأن النار أتلفتها . قال : وهذا كالرجل [ ص: 342 ] المسلم تحيط به النار ورجل مسلم قادر على إخراجه ، ولم يفعل ، فهو عاص ولا عقل عليه ولا قود . وإذا أمر رب الوديعة المودع أن يحرقها بالنار ، أو يلقيها في البحر ففعل ، ففيها قولان : أحدهما : أن لا شيء عليه ، لأنه فعله بأمره .

                                                                                                                                                                              كان الشافعي يقول : إذا أمر الرجل الرجل أن يقطع رأس مملوكه فقطعه فعلى القاطع عتق رقبة ولا قود عليه . قال : وإذا أمره بذلك في دابة له ففعله فلا قيمة عليه ، لأنه أتلفها بإذن مالكها ، فقياس هذا أن لا غرم على من طرح المال في البحر بإذن مالكه على أن هذا ربما كان صلاحا للمسلمين في بعض الأوقات في البحر .

                                                                                                                                                                              وقال الآخر : هو ضامن ، لأن المرء ممنوع من إتلاف المال في غير حال الضرورة ، لأن ذلك محرم على رب المال ، وفاعله عاص يجب أن يحجر عليه ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . فإذا أمره بما ليس له ، فأمره وسكوته سيان . قال : ولو كان المودع لا ضمان عليه لوجب أن يكون المرء المسلم إذا أمر أخاه المسلم أن يضرب عنقه ففعل أن لا يكون على القاتل شيء ، لأنه فعل ما أمره به .

                                                                                                                                                                              وقد أجمع أهل العلم على أن هذا قاتل ظالم وقد منع من مال المسلم ، ومن دمه فالدم والمال في معنى واحد في التحريم ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تحريم الدماء وتحريم الأموال مودعا بذلك أمته في خطبته في حجة الوداع . [ ص: 343 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية