الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر دعوى اللقيط

                                                                                                                                                                              وإذا التقط الرجل صبيا فادعاه رجل حر أنه ابنه قبل قوله ولحق به نسبه في قول مالك وأبي ثور وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : ينبغي في القياس أن لا يصدق ولكنا ندع القياس ويثبت نسبه .

                                                                                                                                                                              وقال ابن القاسم : بلغني عن مالك أنه قال : لا يصدق إلا أن يكون لذلك وجه ، مثل أن يكون رجلا لا يعيش له ولد فيسمع قول الناس إذا طرح عاش فيطرح ولده فيلتقط ثم يجيء (يدعيه) ، فإن جاء مثل هذا (بما) يستدل على صدق قوله ، ألحق به ، وإلا لم يلحق به إلا ببينة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد حكي عن (مالك) أنه قال : لا يثبت نسبه إلا ببينة ، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "البينة على المدعي واليمين على [ ص: 434 ] المدعى عليه" . وهذا قول قل من يقول به ، وعوام أهل العلم على القول الأول ، وبه نقول .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في اللقيط يوجد في مصر من [أمصار] المسلمين فيدعيه ذمي ، فقال قائل : يلحق به ويجعل مسلما في الصلاة عليه ويأمره إذا بلغ بالإسلام بغير إجبار .

                                                                                                                                                                              حكى المزني عن الشافعي أنه قال ذلك ، وقال في كتاب الدعوى والبينات نجعله مسلما ، لأنا لا نعلمه كما قال .

                                                                                                                                                                              قال المزني : وهذا أولى بالحق عندي ، لأن من ثبت له حق لم يزل حقه بالدعوى فقد ثبت (الإسلام) أنه في أهله وجرى حكمه عليه بالدار فلا يزول حق الإسلام بدعوى مشرك .

                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : وإن أقام بينة أنه ابنه بعد ما عقل ووصف الإسلام ألحقناه به ، ومنعناه أن ينصره ، فإن بلغ وامتنع من الإسلام لم يكن مرتدا أقتله ، [ولكن أحبسه وأخيفه رجاء رجوعه] .

                                                                                                                                                                              قال المزني : قياس قول من جعله مسلما أن لا يرده إلى النصرانية .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : إذا وجد في مصر من أمصار المسلمين فادعاه ذمي لم تقبل دعواه إلا ببينة [وذلك أن حكمه حكم الدار فلا أجعله كذا إلا ببينة] [ ص: 435 ] تشهد على نسبه . هذا قول أبي ثور وبعض أصحابه ، وقال بعض من وافقه : لو ثبت نسبه لوجب أن يكون حكمه حكمه ، لأن حكم الطفل حكم أبويه ، فلما اتفقوا أن حكمه حكم الإسلام لم يكن ابنه ، لأنه لو ثبت نسبه وجب أن يكون في الدين مثله ، وزعم ابن الحسن أنه لا يصدق في القياس ، لأنه حر مسلم ، ولكن أستحسن فأجعله ابنه وأدفعه إليه وأجعله مسلما .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : القياس عنده حق وقد أقر أنه ترك الحق عنده ، وحكاية هذا القول تجزئ عن الإدخال على قائله ، والنظر يدل على أن لا يقبل قوله إلا ببينة تشهد له من المسلمين أنه ابنه ، فإذا ثبتت البينة على ذلك وجب دفعه إليه وحكم له في الدين بحكمه ، ولا معنى لما تكلم به قبل بلوغه ، لأنهم لما لم يلزموا ولد المسلم ارتدادا إذا تكلم بالكفر وجب ألا يلزم للطفل من أهل الذمة حكم الإسلام ، وإن تكلم به ، وأجمع كل من نحفظ عنه على أن امرأة لو ادعت اللقيط وقالت : هو ابنها أن قولها غير مقبول . هذا قول الشافعي ، والثوري ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، ويحيى بن آدم ، ولو وجدته امرأة ، فقالت : هو ابني من زوجي هذا وصدق الزوج ، كان ابنها في قول أبي ثور ، [ ص: 436 ] وأصحاب الرأي ولو ادعى اللقيط امرأتان لم تقبل دعوى كل واحدة منهما إلا ببينة في قولهم جميعا .

                                                                                                                                                                              واختلفوا فيه إذا ادعاه رجلان وأقام كل واحد منهما البينة أنه ابنه : ففي قول الشافعي : يراه القافة فبأيهما ألحقوه لحق ، وإن قالت القافة هو ابنهما لم ينسب إلى أحدهما حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهما .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : هو ابنهما من قبل أن الرجلين قد يقعان على امرأة واحدة . ولا تلد المرأتان ولدا واحدا ، وقال أبو ثور : يرى القافة فما حكموا فيه حكم به ، وإذا ادعى اللقيط مسلم وذمي فهو ابن المسلم ، فلا يقبل دعوى الذمي في قول أبي ثور .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا ادعى الذي وجده أنه عبده لم يقبل قوله في قول الشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، وذلك أن اللقيط حر ، لا يقبل قول من ادعى أنه عبد إلا ببينة ، وإذا ادعى اللقيط رجلان . فأقام أحدهما البينة أنه ابنه ، وأقام الآخر البينة أنها ابنته فإذا هي خنثى : ففي قول أبي ثور : إن كان يبول من الذكر قضي به لصاحب الابن ، وإن كان يبول من قبل الفرج فهو جارية يقضى بها لصاحب الجارية ، وإن كان مشكلا أري القافة فما حكموا فيه حكم به .

                                                                                                                                                                              هذا قول أبي ثور : وقد حكي عن يعقوب ومحمد أنهما قالا : هو [ ص: 437 ] لأكثرهما بولا .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية