الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر ولد المكاتبة

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في ولد المكاتبة . فقالت طائفة : يعتقون بعتقها ويرقون برقها . [ ص: 476 ]

                                                                                                                                                                              هكذا قال شريح ، وبه قال مالك وسفيان الثوري ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور : فيها قولان : أحدهما : أن يعتق بعتق أمه . الآخر : أن ما ولدت في الكتابة فهو عبد لمولاها . قال : وهذا أقيس القولين ، وبه أقول . وقد اختلف في هذه المسألة عن النخعي ، فروى معمر عن المغيرة عنه أنه قال مثل قول شريح ، وروى سفيان الثوري عن المغيرة عنه أنه قال : يباع ولدها للعتق وتستعين به الأم في كتابتها . وقول شريح أحب إلى سفيان .

                                                                                                                                                                              8720 - أخبرنا الربيع بن سليمان ، قال : أخبرنا محمد بن إدريس الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : جاءتني بريرة فقالت : إني كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية فأعينيني . فقالت لها عائشة : إن أحب قومك أن أعدها لهم أعددتها ، ويكون ولاؤك لي فعلت . فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم ذلك فأبوا عليها ، فجاءت من عند أهلها والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فقالت : إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم . فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها فأخبرته عائشة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق" . ففعلت عائشة ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم [ ص: 477 ] قال : "أما بعد ، فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق وشرطه أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق" .

                                                                                                                                                                              وأجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا كاتب عبده على ما يجوز أن يملك من مال عدد أو وزن أو كيل على نجوم معلومة معروفة من شهور العرب ، ووصف ما يكاتب عليه من ذلك كما يوصف في أبواب السلم ، أن ذلك جائز . ودل حديث عائشة الذي ذكرناه على إباحة الكتابة على نجوم في أعوام معلومة كل عام شيئا معلوما .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الكتابة على نجم واحد ، فكان الشافعي يقول : الكتابة لا تجوز على نجم واحد . وما جاز بين الحرين المسلمين في البيع والإجارة جاز بين المكاتب وسيده ، وما رد بين المسلمين الحرين في البيع والإجارة رد بين المكاتب وسيده فيما يملك بالكتابة لا يختلف ذلك ، فيجوز أن يكاتبه على مائة دينار موصوفة الوزن والأعيان إلى عشر سنين ، وأول [السنين] سنة كذا ، وآخرها سنة كذا ، تؤدي في انقضاء كل سنة من هذه العشر سنين كذا وكذا دينارا ، ولا بأس أن يجعل الدنانير في السنين مختلفة ، فتؤدي في سنة دينارا ، وفي سنة خمسين ، وفي سنة مائتين ، ذلك إذا سمى كم يؤدي في كل سنة . [ ص: 478 ]

                                                                                                                                                                              وقال النعمان وأصحابه : إذا كاتب الرجل عبده على ألف درهم وعلى وصيف فهو جائز . ولا يجوز هذا في قول الشافعي ، لأن الوصيف غير موصوف ولا معلوم .

                                                                                                                                                                              قال أصحاب الرأي : فإن كاتبه على ألف على أن يرد المولى عليه وصيفا ، فلا خير في المكاتبة على مثل هذا الشرط في قول النعمان ومحمد ، وهكذا في قول الشافعي ، وقال يعقوب : يقسم الألف على قيمة العبد وعلى قيمة وصيف وسط فيطرح ما أصاب قيمة الوصيف من ذلك ويؤخذ بما أصاب قيمته .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : إذا كاتب الرجل على مال ، واشترط عليه خدمة أشهر معلومة ، أو سنين معلومة فهو جائز ، وإن اشترط عليه خدمة مجهولة بغير وقت ولا أجل ، فالمكاتبة فاسدة ، فإن اختصما فيها بعدما يؤدي المال ، فإنه يعتق ويكون عليه فضل قيمته ، فإن كان قد أدى قيمته فلا شيء عليه .

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي لا يجيز الكتابة على نجم واحد ، وكذلك لا يجوز أن يكاتب عبده على مال في وقت معلوم ، وعلى أن يخدمه بعد الوقت شهرا أو أشهرا معلومة .

                                                                                                                                                                              وحكى الوليد بن مسلم عن مالك أنه قال : إذا اشترط عليه كسوة أو ضحية يقوم ذلك بدنانير ، فيدفعه مع نجومه ولا يعتق حتى يؤدي [ ص: 479 ] ذلك . وقد روينا عن سلمان الفارسي أنه كاتب على أن يغرس مائة ودية ، فإذا أطعمت فهو حر .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية