الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر حبس المفلس

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون أن الحبس في الدين. وممن نحفظ ذلك عنه: مالك بن أنس ، والشافعي ، وعبد الملك الماجشون، والنعمان وأصحابه، وأبو عبيد ، وحكي ذلك عن سوار، وعبيد الله بن الحسن . [ ص: 46 ]

                                                                                                                                                                              وقال مالك في الموسر: يحبسه الإمام حتى يقضي دينه، ولا أرى حبس المعسر .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن شريح أنه كان إذا قضى على رجل بحق قال: اربطوه، وربطه أن يحبس حتى يقوم، فإن أدى وإلا أمر به إلى السجن .

                                                                                                                                                                              وروينا عن الشعبي أنه قال: أنا إذا لم أحبس في الدين فأنا [أتويت] ماله .

                                                                                                                                                                              8402 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، عن أبي عبيد قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير قال: كان علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل برجل له عليه دين فقال: احبسه، قال: أله مال؟ فإن قال: نعم قد لجأه. قال: أقم البينة أنه لجأه وإلا أحلفناه بالله ما لجأه .

                                                                                                                                                                              8403 - وحدثنا علي، عن أبي عبيد قال: حدثنا أحمد بن عثمان، عن ابن المبارك ، عن محمد بن سليم، عن غالب القطان، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة ، أن رجلا أتاه تاجر فقال: إن لي على هذا دينا. فقال للآخر: ما تقول؟ قال: صدق. قال: فاقضه. قال: إني معسر. فقال [ ص: 47 ] للآخر: ما تريد؟ قال: أريد أن تحبسه. فقال: هل له مال. قال: لا أعلمه. قال: فما تريد؟ قال: أريد أن تحبسه. فقال: لا، ولكن يطلب لك ولنفسه ولعياله. قال غالب: وشهدت الحسن قضى بمثل ذلك .

                                                                                                                                                                              وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه قضى في ذلك أبدا أنه يقسم ماله بين الغرماء ثم يتركه حتى يرزقه الله .

                                                                                                                                                                              وقال عبيد الله بن أبي جعفر في ذلك قال: لا نحبسه [ولكن] يسعى في دينه خير من أن نحبسه. وقال ذلك الليث بن سعد أيضا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : [ليس] يثبت ما رويناه عن علي، وأبي هريرة، لأن عبد الملك بن عمير لم يلق عليا، وحديث [ أبي المهزم ] لا يثبت عندهم . [ ص: 48 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ليس يخلو أمر من عليه الدين من أحد [ثلاثة] وجوه [إما أن يكون] موسرا مانعا لما عليه، فإن وجد إلى مال له ظاهر سبيل وجب بيعه وقضاء ما عليه عنه، وإن لم يوصل إلى ذلك عوقب بالحبس ليخرج (مما) عليه، وقد رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد فيه مقال أنه أمر رجلا بلزوم رجل له عليه حق .

                                                                                                                                                                              8404 - حدثنا أحمد بن سلمة النيسابوري قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا النضر بن شميل، عن الهرماس بن حبيب العنبري قال: أخبرني أبي، عن جده أنه استعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم على غريم له فقال: "الزمه"، ثم لقيه بعد فقال: "ما تريد أن تفعل بأسيرك هذا يا أخا بني العنبر" .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مجهول أنه قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" . [ ص: 49 ]

                                                                                                                                                                              وفسر ذلك الثوري، ورواه عن وبر "ليه" يعني: أذاه بلسانه "وعقوبته" حبسه .

                                                                                                                                                                              8405 - حدثنا أبو زكريا يحيى بن زكريا الأعرج قال: حدثنا إسحاق قال: أخبرنا وكيع قال: حدثنا وبر بن أبي دليلة الطائفي قال: حدثني محمد بن ميمون بن مسيكة - وأثنى عليه خيرا - عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين في إسنادهما جميعا مقال.

                                                                                                                                                                              8406 - حدثنا بأحدهما محمد بن مهل قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه . [ ص: 50 ]

                                                                                                                                                                              8407 - وحدثنا بالحديث الآخر عن عبد الرحمن بن يوسف قال: حدثنا زياد بن أيوب قال: حدثنا إبراهيم بن خثيم بن عراك، عن أبيه، عن جده، [عن أبي هريرة ] أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة أظنه يوما وليلة استظهارا واحتياطا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : أما حديث إبراهيم بن خثيم فليس بشيء، وفي الإسناد الأول مقال، وما منهما عندي صحيح .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فإن كان الذي عليه الدين معسرا فلا سبيل إلى حبسه إلى أن يوسر، قال الله جل ذكره: ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) ، وثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل عليه دين: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك"، فقد أعلم صلى الله عليه وسلم أن لا سبيل إلى المعسر في حال عسرته .

                                                                                                                                                                              8408 - أخبرنا ابن عبد الحكم قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث ، والليث بن سعد ، عن بكير بن الأشج ، عن عياض بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 51 ] في ثمار ابتاعها فكثر دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا". فتصدق عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : والوجه الثالث أن يكون ممن لا يوقف على أمره، ولا تشهد له بينة بالعدم ولا عليه باليسار، وقد أخذ أموال الناس ولا يعلم جائحة أصابته أذهبت بماله، فحبس هذا يجب، لأن العلم قد أحاط بأخذه الأموال ولا يعلم زوالها ولا خروجها من يده فيعذر بذلك، فإن أتى ببينة على أنه [معدم] وجب إطلاقه، ولا يغفل القاضي المسألة (عنه) ، فإذا صح عنه إفلاسه أطلقه ثم لم يعده إلى الحبس حتى يثبت عنده ببينة أو بإقرار منه أن قد استفاد مالا فرجع إلى حالته الأولى .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية