الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الرجل يزوج أمته وقد وطئها، أو يعتقها ثم يزوجها

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في الرجل يريد أن يزوج أمته وقد وطئها .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة: يستبرئها بحيضة، هكذا قال الزهري ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والحسن بن صالح ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل . [ ص: 263 ]

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: يستبرئها بحيضتين. هكذا قال عطاء، قال: عدتها حيضتان بعدما ينكحها. وبه قال قتادة .

                                                                                                                                                                              وسئل الأوزاعي عن هذه المسألة وقال: قال الزهري : حيضتان، وقال غيره: حيضة. فإن أراد بيعها فعدتها حيضة .

                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي: قلت للزهري: فإن باعها ولم يتزوجها، بكم يستبرئها؟ قال: بحيضة قلت: فإن زوجها عبده فطلقها العبد، فأراد سيدها وطأها؟ قال: تعتد من طلاق زوجها حيضتين، فقلت للزهري: فإن أعتقها وكان يطؤها. قال: تعتد ثلاث حيض .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد ذكرنا عن الثوري ما يحتمل أن يكون اختلافا من فعله، ويحتمل أن لا يكون اختلافا .

                                                                                                                                                                              ذكر عبد الرزاق عنه ما قد ذكرناه عنه أنه يستبرئها بحيضة، وقال الأشجعي: قال سفيان : وإذا أراد الرجل أن يزوج وليدته: فليس عليه استبراء. وقال الفريابي: قال سفيان : إذا أراد الرجل أن يزوج أم ولده فلا يزوجها حتى يستبرئها بحيضة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فإن كان أراد الثوري في الوليدة التي كان الاستبراء عليها، الوليدة التي لم توطأ، وأراد التي وطئت بأن تستبرأ بحيضة، فليس ذلك اختلاف . [ ص: 264 ]

                                                                                                                                                                              واختلفوا فيه إن زوجها قبل يستبرئها. ففي قول الشافعي : النكاح باطل، وفي أحد قولي الثوري: النكاح جائز .

                                                                                                                                                                              وقال النعمان ، وابن الحسن: إذا زوجها ولم يستبرئها فالنكاح جائز. وحكى يعقوب عن النعمان أنه قال: إذا وطئ الرجل أمته ثم زوجها مكانه، فالنكاح جائز، وليس فيه استبراء، يطؤها الرجل مكانه فيجتمعان في يوم واحد في الوطء، لأن الاستبراء ليس بعدة، لو كانت عدة لازمة لم يجز النكاح .

                                                                                                                                                                              وقال يعقوب : أستقبح هذا فلا يقربها الزوج حتى تحيض حيضة .

                                                                                                                                                                              وقال إسحاق وأبو ثور في الرجل يريد أن يزوج جاريته وقد وطئها، يستبرئها، فإن زوجها ولم يستبرئها فالنكاح جائز، ويستبرئها الزوج .

                                                                                                                                                                              وقال سفيان الثوري : إذا اشترى جارية فزوجها أو أعتقها، فزوجها قبل أن يستبرئها، فلا بأس أن يقربها، ليس في النكاح عدة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : يجب للرجل إذا وطئ أمته أن لا يزوجها حتى يستبرئ رحمها بحيضة، كما يستحب للبائع أن لا يبيع أمة كان يطؤها حتى يستبرئها بحيضة. فإن باع رجل أمة كان يطؤها أو أنكحها قبل أن يستبرئها فكما على المشتري أن لا يطأها حتى يستبرئها يحرضه على ذلك. على الزوج أن لا يطأ الأمة التي هذه حالها حتى يستبرئها بحيضة لا فرق بينهما .

                                                                                                                                                                              وإذا اشترى رجل أمة وتزوج آخر أمة، وقد علما جميعا أنها لم توطأ [ ص: 265 ] أو كانت بكرا، فليس على المشتري ولا على الزوج استبراء. وقد روينا عن عطاء غير ذلك، ولا معنى لقوله. قال ابن جريج : قلت لعطاء: رجل أنكح أمته أخاه من الرضاعة، أو امرأة أنكحت أمتها؟ قال: تعتدان. قلت: من أي شيء؟ قال: كانتا أمتين. قال ابن جريج : وأقول أنا: لا تعتدان .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : إذا دبر الرجل جارية له قد كان يطؤها أو أعتقها في مرضه فمات عنها فأراد أي واحدة منهما أراد التزويج أو كان المعتق حيا، فالذي يستحب له أن لا ينكح حتى يستبرئ رحمها بحيضة، فإن نكحت فالنكاح جائز، ويستبرئ الزوج رحمها بحيضة .

                                                                                                                                                                              8547 - حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد - يعني: ابن سلمة - قال: حدثنا ثابت، عن أنس قال: كنت رديف أبي طلحة يوم خيبر وقدمي تمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيناهم حين بزغت الشمس، وقد أخرجوا مواشيهم وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم ومرورهم، قالوا: محمد والخميس، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين فهزمهم الله، ووقعت في سهم دحية جارية، فقيل: يا رسول الله إنه وقع في سهم دحية جارية جميلة، قال: فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سليم تهيئها وتصبغها، وأحسبه قال: وتعتد في بيتها وهي صفية بنت حيي، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 266 ] وليمتها التمر والأقط والسمن، قال: فحصت الأرض أفاحيص، وجيء بأنطاع فوضعت فيها، وجيء بالأقط، والسمن، والتمر، فشبع الناس، قال: وقال الناس: ما ندري أتزوجها أم جعلها أم ولد، قال: فقالوا: إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد، قال: فلما أراد أن يركب حجبها حتى قعدت على عجز البعير، قال: فعرفوا أنه قد تزوجها .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : قال بعض أصحابنا: كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر في آخر المحرم من سنة سبع، وكان فتح خيبر في صفر، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في شهره ذلك، ووقعت صفية في سهم دحية، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وأعتقها، وتزوجها، وبنى بها قبل رجوعه إلى المدينة، ففيما ذكرنا دليل أنه صلى الله عليه وسلم لم يستبرئها بأكثر من حيضة، وقوله في حديث أنس: وأحسبه تعتد عندها يريد عدة استبراء، وكل استبراء فجائز أن يسمى عدة، وكانت صفية ذات زوج فانفسخ نكاحها بالسباء، وحل وطؤها بعد الاستبراء، ولم يلزمها عدة الطلاق، فلو قال قائل: إن كان نكاح ينفسخ بغير طلاق، فإنما يجب فيه استبراء حيضة واحدة، وكان قد ذهب مذهبا، والله أعلم .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وفي بعض أخبار رويفع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة ثيبا من السبي حتى يستبرئها" . [ ص: 267 ]

                                                                                                                                                                              8548 - حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي مرزوق، عن حنش الصنعاني قال: غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب فافتتحنا قرية من قرى المغرب يقال لها: جربة، فقام فينا رويفع خطيبا فقال: أيها الناس إني لا أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره" - يعني إتيان الحبالى من السبايا - ، "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة ثيبا من السبي حتى يستبرئها" .

                                                                                                                                                                              8549 - حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو أسامة ، عن عبيد الله، عن نافع ، عن ابن عمر في الأمة التي توطأ إذا بيعت أو وهبت أو أعتقت، فلتستبرأ بحيضة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وكان الأوزاعي يقول في الرجل تعتد أم ولده: عدتها حيضة واحدة، قيل له: إنه أعتقها، قال: ثلاث حيض، قيل: فمات عنها، قال: أربعة أشهر وعشرا، قيل: فإنه كانت له جارية [يطؤها] فلم تلد منه، كم تعتد؟ قال: إن كان أعتقها عند موته فعدتها أربعة أشهر وعشرا، وإن لم يكن أعتقها فحيضة. وقال الحكم بن عتيبة في الأمة [ ص: 268 ] يصيبها سيدها ولم تلد منه، قال: إذا كان سيدها يطؤها ولم تلد له فأعتقها فإنها تعتد بثلاثة أشهر .

                                                                                                                                                                              وقال الحسن بن صالح في المدبرة إذا مات سيدها، والمعتقة: إنها تستبرأ [بثلاث] حيض .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقول ابن عمر أحسن ما روي في هذا الباب .

                                                                                                                                                                              وبه يقول كثير من أهل العلم: أن عدة الأمة استبراء حيضة واحدة، إذا لم تكن أم ولد، وليس لها أن تزوج في قول مالك حتى تستبرئ رحمها، فإن نكحت فالنكاح فاسد، وأهل الرأي يرون النكاح جائزا. وقال النعمان : للزوج أن يطأها، وإن كان السيد قد وطئها من يومه .

                                                                                                                                                                              وخالفه أبو يوسف فقال: لا يطؤها الزوج حتى يستبرئها. وسئل أحمد عن رجل اشترى جارية لها زوج لم يدخل بها، وطلقها حيث اشتراها، يطؤها الرجل؟ قال: هذه حيلة وضعها أصحاب الرأي: لا بد من أن يستبرئها، قال أحمد: وزعموا - يعني أهل الرأي - إذا اشترى جارية ثم أعتقها وتزوجها أنه يطؤها من ساعته. وقد اختلف أهل العلم في عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها أو أعتقها . [ ص: 269 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية