الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر استبراء الأمة التي لم تحض ومثلها تحبل أو الكبيرة

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في استبراء الأمة التي لا تحيض من صغر، أو كبر .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة: تستبرأ البكر التي لم تحض بثلاثة أشهر. هكذا قال الحسن البصري ، والنخعي ، ومجاهد، وأبو قلابة، وابن سيرين ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل . [ ص: 239 ]

                                                                                                                                                                              وقال الليث بن سعد : بلغنا - يعني هذا القول - عن بعض التابعين، قال: لأن الحمل لا يتبين إلا في ذلك .

                                                                                                                                                                              وقال مالك بن أنس : تستبرأ أرحام الإماء [اللاتي] لم يبلغن المحيض، واللائي يئسن من المحيض في البيع بثلاثة أشهر، إلا أن يستراب من أمرهن، أمر الناس على هذا عندنا، وهو مع ذلك من أعجب ما سمعت إلي. وإن كانت تحيض فحيضة. ابن وهب عن مالك .

                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن حنبل : في العجوز قد أيست من المحيض يستبرئها بثلاثة أشهر، لأن الحمل لا يستبين في أقل من ثلاثة أشهر .

                                                                                                                                                                              قال إسحاق: الأمر في ذلك أن يستبرئها أربعين ليلة عجوزا كانت أو ممن قاربت أن تحيض. فإن كانت ممن تحيض فارتفع الحيض، استبرأها بثلاثة أشهر، لأنه لا يتبين الحمل في أقل من ثلاثة أشهر، كذلك أخبرني الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي، عن الزهري .

                                                                                                                                                                              وقال سفيان الثوري : إن كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر استبرأها بشهر ونصف أو بثلاثة أشهر، أي ذلك فعل فلا بأس .

                                                                                                                                                                              الأشجعي عنه .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: تستبرأ بشهر ونصف. هذا قول سعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير، ويحيى بن أبي كثير . [ ص: 240 ]

                                                                                                                                                                              واختلف عن الحكم، وحماد، وفيه فروي عنهما أنهما قالا: ثلاثة أشهر. وروي عنهما أنهما قالا: شهر ونصف .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: تستبرأ بشهر. هذا قول عكرمة، والشافعي ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              8536 - وروى يعقوب عن النعمان ، عن حماد، عن إبراهيم قال: تستبرأ بحيضة فإن لم تكن تحيض: فبشهر .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وأصح من ذلك رواية شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم قال: تستبرأ بثلاثة أشهر يعني التي لم تبلغ المحيض .

                                                                                                                                                                              فأما الذين قالوا: إن استبراء من لم تحض ثلاثة أشهر، فقد أخبر الليث بن سعد ، وأحمد العلة في ذلك، قالوا: لأن الحبل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر. وأما عطاء بن أبي رباح ، فإنما جعل ذلك قياسا على عدة الأمة. ألا ترى أن عدتها إذا كانت ممن تحيض حيضتين، لأن الحيض لا يتبعض فجعل عدتها حيضتين، وجعل عدتها إن كانت لا تحيض خمسا وأربعين ليلة - شهر ونصف - لوجود السبيل في أن يجعل للأشهر الثلاثة نصفا . [ ص: 241 ]

                                                                                                                                                                              8537 - أخبرنا محمد بن علي ، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا هشيم ، قال: أخبرنا منصور، وعبد الملك، عن عطاء تستبرأ بحيضة، ثم قال بعد: بحيضتين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : هذا آخر قولي عطاء الذي رجع إليه، وهو قول ينقاس، وليس يلحق قائله مناقضة .

                                                                                                                                                                              وأما من قال: إن استبراء الأمة التي تحيض حيضة، فإن لم تحض فثلاثة أشهر، فليس يقاس على العدة، ولا يدل عليه النظر، وإن كثر عدد من قاله. الشافعي والكوفي يشبه أن يكونوا أرادوا أن الله جل ثناؤه لما جعل عدة المطلقات اللواتي يحضن ثلاثة قروء، وجعل عدتهن إذا يئسن من المحيض، ومن لم تبلغ الحيض منهن ثلاثة أشهر، ووجدوا الأخبار تدل على أن استبراء الأمة حيضة، جعلوا الشهر مكان الحيضة، لأن الله عز وجل جعل مكان كل حيضة شهرا في العدة. وهذا قول ينقاس أيضا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : الظاهر من أمر المرأة التي قد حاضت: أن حيضة تحيضها تجزئ من الاستبراء، وإن كانت قد ترى في الدهر المرأة وهي حامل دماء وليس الأغلب من أمر النساء ذلك، وإنما يحملن على الأغلب من أمورهن، وكذلك من لا تحيض، إذا أتى عليها شهر، فالظاهر أن لا حمل بها، كما أن الظاهر أن لا حمل ممن قد حاضت حيضة، وإن احتملت لكل واحدة منهما أن تكون حاملا، ولا يكاد يكون هذا إلا في الشاذ من النساء . [ ص: 242 ]

                                                                                                                                                                              قال سفيان الثوري في الرجل يشتري الجارية وهي ممن تحيض فترتفع حيضتها، قال: يكف سنتين، لأنه لا يكون الحمل أكثر من سنتين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : مالك والشافعي يخالفان الثوري في هذا، ويقولان: قد تكون أقصى مدة الحمل أربع سنين، وقد احتج بعض أصحاب الرأي بحديث واهي الإسناد من حديث ابن جريج ، عن جميلة بنت سعد، عن عائشة أنها قالت: ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين، قدر ما يتحول ظل عود المغزل .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : قد أنكر مالك حديث عائشة هذا وقال: سبحان الله من روى هذا عن عائشة : هذه جارتنا امرأة ابن عجلان حملت ثلاثة أبطن، يمكث الولد في بطنها في كل بطن أربع سنين ثم تلد . [ ص: 243 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد روينا أخبارا عن الأوائل في هذا الباب، ففي بعضها: أن المرأة تلد الثلاث سنين .

                                                                                                                                                                              قال ابن عجلان : امرأة من نسائنا تلد لثلاث سنين .

                                                                                                                                                                              وقال الليث بن سعد : حملت امرأة ثلاث سنين، فولدت غلاما .

                                                                                                                                                                              وقال مالك بن أنس : أخبرني ابن عجلان أن امرأته كانت تحمل لخمس سنين، وقد روي أن امرأة ابن عجلان حملت مرة لخمس سنين، ومرة لثلاث سنين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وليس شيء مما روينا عن امرأة [ ابن عجلان ] يختلف، قد يجوز أن تكون حملت مرة لثلاث سنين ومرة لأربع سنين، ومرة لخمس سنين فلا يكون في ذلك اختلاف .

                                                                                                                                                                              وقال عباد بن العوام : ولدت امرأة منا في الدار لخمس سنين .

                                                                                                                                                                              8538 - وقد روينا عن الزهري أنه قال: إن المرأة تحمل ست سنين، وسبع سنين. وقد ذكرنا هذه الأخبار بأسانيدها في "المختصر الكبير" من [ ص: 244 ] كتاب الدعاوى والبينات .

                                                                                                                                                                              8539 - وقد روينا عن الضحاك أنه قال: ولدتني أمي لسنتين .

                                                                                                                                                                              8540 - وروى حماد بن سلمة ، عن حميد بن هرم الأسلمي كان في بطن أمه سنتين فولد وقد نبتت ثناياه فسمي هرما .

                                                                                                                                                                              (قال أبو عبيد ) : قولنا: إنه ليس لآخر الحمل وقت معلوم، وعلى هذا الأصل قولنا في كل شيء من شرائع الإسلام، أنه لا يجوز فيه التحديد، والتوقيت بالرأي، إلا من علم مستنبط من التنزيل، أو السنة، فوجدنا أدنى الحمل له أصل في الكتاب وهو الأشهر الستة، وذلك لقول الله - جل ذكره - ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) ثم قال: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ، فصار الحولان وقتا للرضاعة، وبقيت الستة الأشهر للحمل، ولم نجد [لآخره] وقتا .

                                                                                                                                                                              ألست ترى أن عمر قد كان أراد إقامة الحد على المرأة؟ ولو كان عنده علم من القرآن أو السنة في توقيت السنتين لاتبعه، ولم يأمر برجم المرأة .

                                                                                                                                                                              وكذلك معاذ لم يعرف السنتين، إنما كره إقامة الحد عليها وهي حامل فقط، وقد حكم في المرأة ترفعها حيضتها أنها تعتد من عند الريبة تسعة أشهر، ثم ثلاثة أشهر، فجعلت وقت الحمل هاهنا تسعة أشهر، ثم [ ص: 245 ] قضى في امرأة المفقود أنها تربص [أربع] سنين، ثم جاءت امرأة ابن عجلان بغير ذلك كله، ثم وجدنا النساء لا يعرفن في هذه الأزمنة كلها إلا التسعة الأشهر فما دونها، فكيف يستجيز لك أن تقف من هذه على حد واحد فتتحدد مع ما وصفنا من تخليط الأوقات، وليس يرجع فيه إلى كتاب ولا سنة ولا قول أحد من الصحابة، إلا حديث عائشة ، ولكن التي روت امرأة مجهولة لا تعرف .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد حكى ابن القاسم عن مالك أنه قال في أمة بيعت، فوضعت على يد رجل، لتستبرأ فرفعتها حيضتها، لا تدري لم رفعتها: أرى أن تنتظر تسعة أشهر، فإن حاضت قبل التسعة حيضة واحدة كفتها، وإن مرت تسعة أشهر قبل أن تحيض ذلك يبرئها في رأي عمر، إن لم يرتب من حمل .

                                                                                                                                                                              8541 - حدثنا محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا عمار بن عبد الجبار، عن شعبة قال: أخبرني سليمان، عن أبي الضحى، عن ابن عباس : أن امرأة ولدت لستة أشهر، فرفع ذلك إلى عثمان، فأراد يرجمها، فقال ابن عباس : إن تخاصمك بكتاب الله خصمتك بقول الله عز وجل ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) ، قال: فخلى عنها . [ ص: 246 ]

                                                                                                                                                                              8542 - حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن مسلم، عن ابن عباس قال: رفعت امرأة إلى عثمان، لم تكن عند زوجها إلا ستة أشهر حتى ولدت، فأراد رجمها، قال: فقال ابن عباس : إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم، قال الله ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ، قال: فالرضاع أربعة وعشرون شهرا وحمله ستة أشهر، قال: فعجب الناس .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية