الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر اختلاف أهل العلم في بيع المدبر والرجوع في التدبير

                                                                                                                                                                              واختلفوا في بيع المدبر والرجوع في التدبير : فرخصت طائفة لسيد المدبر أن يرجع في تدبيره ببيع أو غيره .

                                                                                                                                                                              فممن رأى أن التدبير وصية يرجع فيها صاحبها متى شاء : مجاهد وطاوس والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور . وقال أحمد مرة : أجبن عنه .

                                                                                                                                                                              وقال عمرو بن دينار : دبر مملوكين له في [مرضه ثم] قال : أديا مائتي درهم وأنتما حران ، فسألت عطاء ومجاهدا وأبا الشعثاء وطاوسا ، فكلهم قال : الآخرة أحق من الأولى .

                                                                                                                                                                              وكان الحسن البصري يرى إذا احتاج الرجل في تدبيره .

                                                                                                                                                                              وباع عمر بن عبد العزيز مدبرا في دين صاحبه .

                                                                                                                                                                              8763 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو النعمان ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن عمرة ، عن عمرة [ ص: 572 ] أن عائشة دبرت جارية لها فسحرتها فاشتكت عائشة فقال [طبيب] بالمدينة : إنكم لتصفون صفة امرأة مسحورة سحرتها أمة لها في حجرتها [بول] صبي فقالت : سحرتني ؟ ! فقالت : نعم . قالت : لمه ؟ قالت : أردت أن أعتق . قالت : فإن لله علي (أن) لا تعتقي أبدا ، بيعوها من شر حي في العرب ملكة ، فباعوها ، فاشترت بثمنها إنسانا فأعتقته .

                                                                                                                                                                              وكرهت طائفة بيع المدبر ، وممن كره ذلك : ابن عمر .

                                                                                                                                                                              8764 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو النعمان ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب عن نافع ، عن ابن عمر أنه كره بيع المدبر .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وكره ذلك سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي إبراهيم والزهري . [ ص: 573 ]

                                                                                                                                                                              وقال محمد بن سيرين : لا يباع المعتق عن [دبر] إلا أن يبيع خدمته منه .

                                                                                                                                                                              وكان الحسن البصري يقول في المعتق عن دبر : لا يباع . فقيل له : فإن احتاج صاحبه ولم يكن له شيء غيره فلم يزالوا به حتى رخص لهم ، وكان قوله الذي هو قوله أن لا يباع . ذكر ذلك يونس بن عبيد عنه .

                                                                                                                                                                              وقال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا في المدبر أن صاحبه لا يبيعه ولا يحوله عن موضعه الذي وضعه عليه ، فإنه إن رهق سيده دين فإن غرماءه لا يقدرون على بيعه ما عاش سيده ، فإن مات سيده ولا دين عليه فهو في ثلثه ، لأنه استثنى عمله ما عاش ، فليس له أن يحرمه حياته ثم يعتقه على وارثه إذا مات من رأس ماله ولكنه يكون في الثلث ، ويكون الثلثان للورثة ، وإن مات سيد المدبر ولا مال له غيره عتق ثلثه وكان ثلثاه للورثة ، وإن مات سيد المدبر وعليه دين يحيط بالمدبر بيع في دينه ، لأنه إنما يعتق في الثلث ، وإن كان الدين يحيط بنصف المدبر بيع نصفه ثم عتق ثلث ما بقي بعد الدين ، وهذه سنة المدبر التي لا اختلاف فيه ببلدنا . وقال مالك : لا يجوز بيع المدبر ولا يجوز أن يشتريه إلا أن يشتري المدبر نفسه من سيده فيكون ذلك جائزا له أو يعطي أحد سيد المدبر مالا ويعتقه سيده الذي دبره فذلك جائز أيضا . وكان سفيان الثوري يقول : إن قال إن مت ففلان حر ، [ ص: 574 ] فليس له أن يرجع .

                                                                                                                                                                              وكان الأوزاعي يقول : لا يجوز بيع المدبر . وكذلك قال الحسن بن صالح .

                                                                                                                                                                              وقال النعمان وأصحابه : ليس له أن يبيعه ولا يرهنه ، وله أن يؤاجره ويستعمله وله أن يزوجه ، ولا يباع المدبر (في دين) على مولاه ، ولكن يسعى ، فإن كان الدين أقل من قيمته سعى في الدين ، وفي ثلثي ما بقي من قيمته للورثة ، ولا تجوز شهادة المدبر ما دام يسعى في شيء من قيمته وهو بمنزلة العبد في جنايته والجناية عليه . وهذا قول النعمان .

                                                                                                                                                                              وقد روينا في بيع المدبر أقاويل ثلاثة سوى ما ذكرناه : أحدها : أن لا يباع المدبر إلا من نفسه . روينا هذا القول عن محمد بن سيرين ، وهذا يوافق ما ذكرناه عن مالك .

                                                                                                                                                                              والقول الثاني : قول الشعبي قال : يبيعه الجريء ويهابه الورع .

                                                                                                                                                                              والقول الثالث : قول الليث بن سعد قال : الذي أدركنا عليه الناس أن يكره بيع المدبر ، فإن جهل إنسان أو عقل فباعه فأعتقه الذي اشتراه ، فإن بيعه جائز وولاؤه لمن أعتقه . وقال ابن وهب : أرى أن يجعل ثمنه في مدبر آخر مكانه . قال ابن وهب : وسمعت الليث وسئل عن المدبر يقتل فيأخذ [ ص: 575 ] سيده قيمته قال : أحب إلي أن يجعل قيمته في مدبر آخر . وإني لا أرى ذلك له واسعا إن لم يفعل .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : للمرء أن يرجع في تدبير العبد وله بيعه وهبته ويفعل فيه ما يفعله في سائر عبيده الذين لم يدبرهم ، والدليل على صحة هذا : القول الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه باع مدبرا مع إجماع عوام أهل الفتيا من علماء الأمصار على أن المدبر من الثلث وأن حكمه حكم الوصايا ، ولا أعلمهم يختلفون في أن للمرء أن يرجع في سائر الوصايا . وحكم ما اختلف فيه من أمر المدبر حكم سائر الوصايا على أن في بيع النبي صلى الله عليه وسلم المدبر الذي باعه كفاية ومقنع وحجة يستغنى بها .

                                                                                                                                                                              8765 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : أعتق رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا له ليس له مال غيره . فقال النبي صلى الله عليه وسلم من "يبتاعه مني ؟ " فقال نعيم بن عبد الله الكندي : أنا أبتاعه فابتاعه . - قال عمرو : قال جابر - غلاما قبطيا مات عام أول . زاد فيه أبو الزبير يقال له يعقوب . [ ص: 576 ]

                                                                                                                                                                              8766 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن الوليد العدني ، عن سفيان الثوري ، عن [ أبي] الزبير ، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من الأنصار يقال له : أبو مذكور أعتق غلاما له عن دبر منه قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هل له مال غيره ؟ قالوا : لا ، قال : من يشتريه مني ؟ قال : فاشتراه نعيم ابن النحام بثمانمائة درهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنفقها على نفسك ، فإن كان فيه فضل فعلى أهلك ، وإن كان فيه فضل فعلى أقاربك ، فإن كان فيه فضل فاقسم هاهنا وهاهنا" .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية