الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر تأديب من ارتكب ما نهى الله عنه من البيوع المحرمة

                                                                                                                                                                              7973 - حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: رأيت الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضربون إذا اشترى الرجل الطعام جزافا أن يبيعه حتى ينقله إلى رحله .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاما فليس له أن يبيعه حتى يقبضه . [ ص: 147 ]

                                                                                                                                                                              وقد ذكرنا الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك. وممن نحفظ هذا القول عنه: مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة. وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام. وكذلك قال سفيان الثوري ومن وافقه من أهل الكوفة. وكذلك قال الشافعي وأصحابه. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي ليس بينهم في ذلك اختلاف .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في بيع غير الطعام. فقالت طائفة: لا يجوز بيع شيء من الأشياء اشتراه المرء حتى يقبضه، دخل في ذلك عندهم المكيل والموزون من الطعام كله، والعروض، والحيوان، والدور، والأرضين، وسائر العقد وجعلوا حكم جميع ذلك حكم الطعام في أن لا يجوز بيعه قبل القبض. وهذا قول الشافعي وأصحابه. ومحمد بن الحسن .

                                                                                                                                                                              وقد ذكرنا عن ابن عباس قوله: وأحسب كل شيء مثله. وبه قال بعض أصحاب الحديث، واحتج بخبر: [ ص: 148 ] .

                                                                                                                                                                              7974 - أخبرناه عبد الرزاق، عن [عمر] بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله، إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها، وما يحرم علي فقال: "يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه" .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر، وقد روى هذا الحديث أبان العطار، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعلى بن حكيم، عن يوسف بن ماهك .

                                                                                                                                                                              وقالت فرقة: حكم كل سلعة مبيع حكم الطعام في أن لا يباع حتى يقبض، إلا الدور والأرضين، فإن بيع ذلك جائز قبل القبض. هذا قول النعمان، ويعقوب .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: كل مبيع ابتاعه رجل فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه، خلا الكيل والوزن. روينا هذا القول عن عثمان بن عفان رضي الله عنه . [ ص: 149 ]

                                                                                                                                                                              7975 - حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان بن عفان قال: كل بيع ابتاعه رجل فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه ما خلا الكيل والوزن .

                                                                                                                                                                              وهذا قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والحكم، وحماد، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق .

                                                                                                                                                                              وفيه قول رابع: وهو أن كل ما عدا المأكول والمشروب جائز أن يباع قبل أن يقبض. وذلك مثل الرقيق، والثياب، والعروض، وسائر السلع .

                                                                                                                                                                              هذا قول مالك بن أنس، وأبي ثور. وقال ابن عون: قلت لمحمد بن سيرين : أبيع البز قبل أن أقبضه؟ قال: لا أعلم به بأسا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ومن الحجة لهذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع الطعام قبل أن يقبض كذلك قال ابن عباس . وفيه دليل على أن غير الطعام ليس كالطعام، ولو لم يكن كذلك ما كان في قصده إلى النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض فائدة ولا معنى، لأن من قول من خالفنا أن ما نهي عن بيعه قبل أن يقبض وما لم ينه عنه سواء. ومعلوم أن السلعة المشتراة بعد الافتراق قبل القبض للمشتري، لأنهم قد أجمعوا على أن [ ص: 150 ] المشتري إذا اشترى جارية فأعتقها في تلك الحال قبل أن يقبضها أن عتقه جائز، ولا يجوز عتق البائع لزوال ملك البائع عنه بالافتراق، وثبوت ملك المشتري عليه، ولا يجوز أن يمنع رجل من بيع ما يملك بغير حجة، إلا الطعام الذي خصه الرسول صلى الله عليه وسلم. ويدخل في الطعام الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعه قبل أن يقبض كل مكيل وموزون ومعدود ومشترى صبرة بعد أن يقع عليه اسم الطعام. فأما خبر حكيم بن حزام الذي احتج به بعض أهل الحديث، فالمشهور من أخبار حكيم والثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعن طعاما حتى تشتريه وتستوفيه" وهو موافق لسائر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفوا في إسناد خبر حكيم بن حزام الذي احتج به بعض أصحابنا، وكل بيع فجائز على ظاهر كتاب الله إلا بيع نهى الله عنه، أو نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أو أجمع أهل العلم عليه - والله الموفق .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية