الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الكفالة بالنفس

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في الكفالة بالنفس ، فأوجب ذلك أكثر أهل العلم ، روينا عن شريح أنه حبس ابنا له كفالة .

                                                                                                                                                                              وقال أبو هاشم في رجل كفيل برجل بنفسه ففر المكفول به . قال : يحبس الكفيل أياما ثم يخرجه ، ثم يحبسه أياما ويأمره أن يطلب .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وممن قال أن الكفالة بالنفس جائزة يؤخذ بها الكفيل : مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل ، والنعمان .

                                                                                                                                                                              واختلف فيه عن الشافعي فأوجب ذلك مرة ، وقال مرة : هي ضعيفة .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : الكفالة بالنفس غير جائزة ، لأن الله لم يوجبها ولا رسوله . وأعلى ما احتج به من أوجب الكفالة بالنفس . [ ص: 617 ]

                                                                                                                                                                              خبر روي عن عبد الله بن مسعود أنه كفل قوما وقال : الكفالة كانت في حد لا في مال .

                                                                                                                                                                              والذين يحتجون بخبر عبد الله خالفوه فقالوا : لا تجوز الكفالة في الحدود . فقال بعضهم : الكفالة بالحدود وغير الحدود تجب . فاحتج بخبر عبيد الله .

                                                                                                                                                                              8376 - حدثنا نصر بن أحمد قال : حدثنا عبيد الله بن موسى قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب قال : صليت مع عبد الله بن مسعود الغداة ، فلما سلم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه ، قال : أما بعد فوالله لقد بت الليلة وما في نفسي على أحد من الناس حنة - ولم أدر ما الحنة حتى سألت شيخا إلى جنبي فقال : العداوة والغضب والشحناء . فقال الرجل : وإني كنت استطرفت رجلا من بني حنيفة لفرسي ، وإنه أمرنى أن آتيه بغلس فانتهينا إلى مسجد بني حنيفة - مسجد عبد الله بن النواحة - سمعت مؤذنهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله ، فكذبت سمعي وكففت الفرس حتى سمعت أهل المسجد أسطوا على ذلك مما كذبه عبد الله فقال : من هاهنا ، فقام علي بعبد الله بن النواحة وأصحابه فجيء بهم وأنا جالس ، فقال عبد الله لعبد الله بن النواحة : أين ما كنت تقرأ من [ ص: 618 ] القرآن ؟ قال : كنت أتقيكم به فأتي فأمر به عبد الله قرظة بن كعب الأنصاري فأخرجه إلى السوق فجلد رأسه . قال حارثة : فسمعت عبد الله بن مسعود يقول : من سره أن ينظر إلى عبد الله قتيلا بالسوق فليخرج فلينظر إليه . قال [حارثة ] : فكنت فيمن خرج فإذا هو قد جرد ، وإذا عمامة له ، ثم إن عبد الله شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم ، فقام عدي بن حاتم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فتوبوا من الكفر . فقال الأشعث وجرير : استتبهم وكفلهم عشائرهم . فاستتابهم فتابوا ، وكفلهم عشائرهم .

                                                                                                                                                                              8377 - أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أن ابن وهب أخبرهم ، قال : أخبرني ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : حدثني محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي ، عن أبيه حمزة ، أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا على بني سعد بن هذيم قال : فأتى حمزة بمال له ليصدقه فإذا رجل يقول لامرأة : خذي مال مولاك ، وإذا المرأة تقول له : بل أنت أو صدقه مال ابنك ، فسأله حمزة بن عمرو عن أمرهما وقولهما فأخبر أن ذلك الرجل زوج تلك المرأة وأنه وقع على جارية لها فولدت ولدا فأعتقته امرأته ، [ ص: 619 ] قالوا : فهذا المال لابنه من جاريتها . فقال حمزة : لأرجمنك بأحجارك . فقال له أهل الماء : أصلحك الله ، إن أمره قد رفع إلى عمر بن الخطاب فجلده مائة لم ير عليه الرجم . قال : فأخذ حمزة بالرجل كفلا حتى قدم على عمر بن الخطاب فسأله عما ذكر أهل الماء من جلد عمر إياه مائة جلدة وأنه لم ير عليه رجما . قال : فصدقهم عمر بذلك من قولهم ، وإنما درأ عنه الرجم ، لأنه عذره بالجهالة .

                                                                                                                                                                              قال هذا القائل : فهؤلاء جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد رأوا الكفالة في الحدود . والعراقيون يقولون : لا كفالة في حد . وابن مسعود تكفل أصحاب ابن النواحة بالكوفة بحضرة جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله اللذين أشارا عليه بتكفيل هؤلاء القوم من عشائرهم ، وحمزة قد كفل أيضا في الحد ، ولعل ذلك قد ذكر لعمر ، فهؤلاء جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأوا الكفالة في الحدود ، ولا نعلم صحابيا خالفهم ، وأصل قول معلمنا - يعني الشافعي - وقول العراقيين في جملة ما يعطون في الأصل أنهم لا يخالفون الصحابي إلا إلى قول مثله ، فيلزمهم جميعا على أصل مذهبهم أن يروا الكفالة في الحدود جائزة ، فأما أن يروا كفالة النفس في غير الحدود ولا يعلم في صحابي أنه حكم به ، ويبطلوا كفالة النفس في الحدود ، وقد روي عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهو سهو وإغفال ، والله أعلم . [ ص: 620 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية