الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              باب جماع أبواب السلف

                                                                                                                                                                              أجمع كل من نحفظ عنه عن علماء الأمصار على أن استقراض الدنانير ، والدراهم ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وكل ما له مثل من سائر الأطعمة المكيل منها والموزون جائز ، ودل خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن استسلاف الحيوان جائز فاستقراض الحيوان وكل [ما له ] مثل جائز .

                                                                                                                                                                              8214 - أخبرنا الربيع ، قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي رافع ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره ، فرجع إليه أبو رافع فقال : لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا . فقال : "أعطه إياه ، إن خيار الناس أحسنهم قضاء " .

                                                                                                                                                                              8215 - حدثنا يحيى بن محمد ، قال : حدثنا أبو عمر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له ، فهم به أصحابه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "دعوه ، فإن لصاحب الحق مقالا " ، فقال : "اشتروا له بعيرا فأعطوه إياه " . فقالوا : لا نجد بعيرا إلا سنا أفضل من سنه . فقال : "اشتروه فأعطوه إياه ، فإن خيركم أحسنكم قضاء " . [ ص: 407 ]

                                                                                                                                                                              أجمع أهل العلم على أن من أسلف رجلا سلفا مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله أن ذلك جائز ، وأن للمسلف أخذ ذلك .

                                                                                                                                                                              وأجمعوا على أن المسلف إذا اشترط عند سلفه هدية أو زيادة فأسلفه على ذلك أن أخذه الزيادة على ذلك ربا .

                                                                                                                                                                              واختلفوا فيه إن قضاه أفضل من ذلك ، أو أهدى له هدية على غير شرط كان بينهما . فكرهت طائفة ذلك على سبيل ما يذكره عنهم إن سالفه .

                                                                                                                                                                              8216 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن سفيان ، قال : حدثنا عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، أن رجلا جاءه فقال : إني أقرضت رجلا خمسين درهما وكان سماكا ، فلا يزال يهدي إلي من السمك . فقال ابن عباس : حاسبه بما أهدى لك ، فإن كان له فضل فرد عليه ، وإن كان كفافا فقاضه .

                                                                                                                                                                              8217 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو النعمان ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، أن ابن عباس قال : إذا أقرضت قرضا فلا تأخذن عليه هدية ، ولا كراع ، ولا ركوب دابة . [ ص: 408 ]

                                                                                                                                                                              8218 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال : أخبرنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا سليمان - يعني التيمي - عن أبي عثمان قال : أقرض ابن مسعود رجلا دراهم ، فلما خرج عطاؤه جاءه بقرضه فقال : أما والله لقد انتقيت لك عطائي . فقال ابن مسعود : انطلق فاخلطه ثم أعطنا من عرضه .

                                                                                                                                                                              8219 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله ، عن سفيان ، قال : حدثنا الأسود بن قيس العبدي ، قال : حدثني كلثوم بن الأقمر ، عن زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب : يا أبا المنذر ، إني أريد أرض الجهاد فآتي العراق ، فاخفض لي جناحك ، قال : إنك تأتي [أرضا ] فاش بها الربا ، فإذا أقرضت رجلا قرضا فأهدى لك هدية فخذ قرضك ورد عليه هديته .

                                                                                                                                                                              8220 - حدثنا يحيى بن محمد ، قال : حدثنا أبو الربيع ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، وهشام ، عن محمد أن رجلا استسلف من رجل خمسمائة درهم فقال : على أن تعيرني ظهر فرسك ، فسأل ابن مسعود فقال : ما أصاب من ظهر فرسك فهو ربا . [ ص: 409 ]

                                                                                                                                                                              8221 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله ، عن سفيان قال : حدثناه أبو إسحاق قال : جاء رجل إلى ابن عمر فقال : إني أقرضت رجلا قرضا فأهدى إلي هدية ، قال : اردد عليه هديته أو أثبه .

                                                                                                                                                                              8222 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا ليث بن أبي سليم ، قال : حدثنا أبو بردة قال : قدمت المدينة فلقيت [عبد ] الله بن سلام ، فقال لي عبد الله بن سلام : إنك بأرض الربا بها فاش خفي أليس منكم من إذا اقترض قرضا فحل جاء صاحبه بالحامل من الطعام والحاملة من العلف وذلك هو الربا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وممن كره في الجملة كل قرض جر منفعة : محمد بن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، ومالك بن أنس ، وأحمد بن حنبل ، وقال علقمة : إذا أتيت رجلا ولك عليه دين [ ص: 410 ] فأكلت عنده فاحسب له ما أكلت عنده من دينك . ورخصت طائفة في ذلك إذا كان من غير شرط .

                                                                                                                                                                              8223 - حدثنا يحيى بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عثمان [اللاحقي ] ، قال : حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن إبراهيم - يعني الصائغ - قال سئل عطاء عن الرجل يقرض الرجل الدراهم ثم يعطيه أفضل مما أخذ منه من غير أن يسأله إياه ؟ قال : لا بأس به ، قداستقرض عبد الله بن عمر من رجل دراهم بيضاء عددا ثم قضاه سوداء وافية ، فقال له صاحبه : هذا أفضل مما أعطيتك! فقال له عبد الله بن عمر : قد علمت ولكني قد أحللته لك .

                                                                                                                                                                              8224 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أبي الزبير ، عن عطاء مولى ابن سباع قال : أسلفت ابن عمر ألفي درهم ، فبعث إلي بأكثر منها فوزنتها ، فإذا هي تزيد مائتي درهم ، فقلت : لعله يريد أن يجربني ، فلقيته فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنك بعثت إلي بزيادة مائتي درهم . فقال : هي لك .

                                                                                                                                                                              8225 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يقول : من أسلف سلفا فلا يشترط إلا قضاءه . [ ص: 411 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا قول إبراهيم النخعي ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، والشعبي ، ومكحول ، والزهري ، وقتادة ، ومالك ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وقال الشافعي : إذا كانت لرجل على رجل مائة دينار عتق فقضاه شر منها أكثر من عددها أو وزنها فلا بأس ، فإن كان هذا عن شرط فلا خير فيه ، وهكذا إن قضاه خيرا منها في الوزن والعدد فلا بأس إذا كان عن غير شرط .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : إن كانا يتعاطيان بينهما الهدايا قبل ذلك أو المؤاكلة فلا بأس أن يمضيا على عادتهما ، وإن أحدث ذلك بعد القرض فهو مكروه .

                                                                                                                                                                              روينا هذا المعنى عن إبراهيم النخعي ، وبه قال إسحاق بن راهويه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ينصرف عندي الأمر في هذا على ثلاثة وجوه : أحدها : أنه إن أقرضه قرضا على أن يهدي إليه هدية معروفا كان ما شرط عليه من ذلك معلوما أو غير معلوم ، فالزيادة على ما أعطاه حرام ، وإذا كان ما استقرض منه قائما فعليه أن يرده عليه ، لأنه أعطاه على غير ما يجب ، فإن فات رد عليه مثله . [ ص: 412 ]

                                                                                                                                                                              والوجه الثاني : أن يقرضه قرضا ولا يشترط عليه شيئا ، ولم يعطه على نية أن ينتفع به ، فرد عليه أفضل مما أعطاه ، فذلك جائز مباح استدلالا بخبر أبي رافع وخبر أبي هريرة رضي الله عنهما . وقد ذكرناهما في أول الباب .

                                                                                                                                                                              والوجه الثالث : أن يكونا كانا يتهاديان قبل ذلك ويدعو بعضهم بعضا فلا يكره لهم أن يمضوا على أخلاقهم التي جرت قبل يحدث السلف ، وقد روينا عن الزهري أنه سئل عن رجل يقرض دراهم سوداء فقضاه رجل مائة راجحة طاب له نفسا بفضلها ، فقال : لا يقبلها ، فإن قضاه ناقصة ؟ قال : إن شاء تجاوز عنه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : لا فرق بينهما .

                                                                                                                                                                              8226 - حدثنا عبد الرحمن بن يوسف ، قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن أبي عبيدة ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه تمرا كان له عنده فقضى الأعرابي وأطعمه .

                                                                                                                                                                              8227 - حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدثنا خلاد بن يحيى ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جده أنه أسلف النبي صلى الله عليه وسلم سلفا فلما أتى دعاه ليعطيه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما جزاء السلف الحمد والوفاء " . [ ص: 413 ]

                                                                                                                                                                              8228 - حدثنا أحمد بن داود السمناني ، قال : حدثنا بندار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة ، عن [جده ] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استقرضني النبي صلى الله عليه وسلم ألفا في غزاة غزاها ، فأرسل إلي بها وقال : "هاك بارك الله لك ، ليس للقرض جزاء إلا القضاء والحمد " .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : قال الأحمسي : عن وكيع ، عن إسماعيل بإسناده : ثلاثين أو أربعين .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مجهول لا أعلمه ثابتا أنه قال : "إذا استقرض أحدكم من أخيه قرضا فحمله على دابة أو أهدي إليه على طبق فلا يقبل ذلك إلا أن يكون قد جرى بينه وبينه قبل ذلك " . [ ص: 414 ]

                                                                                                                                                                              8229 - حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا خالد بن أبي يزيد القرني ، قال : حدثنا هشيم ، عن عتبة أبي معاذ ، عن [يحيى بن يزيد ] ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 415 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا غير ثابت ، وخبر أبي هريرة ثابت ، وفي حديث أبي رافع دليل على إباحة أخذ المقرض أفضل مما أعطى ، إذا طابت به نفس المعطي .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية