الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر مبايعة من الغالب على أمواله الحرام وقبول هداياه وجوائزه

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في مبايعة من يخالط ماله الحرام وقبول هدايا من هذه صفته وجوائزه .

                                                                                                                                                                              فرخصت طائفة في ذلك ، كان الحسن البصري لا يرى بأسا أن يأكل الرجل من طعام العشار والصراف والعامل ، وكان يقول : قد أحل الله طعام اليهود والنصارى ، وأكله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون .

                                                                                                                                                                              وقال مكحول والزهري : إذا اختلط المال وكان فيه الحرام والحلال فلا بأس أن يؤكل منه ، وإنما يكره من ذلك الشيء الذي يعرفه بعينه . وقال الحسن البصري : لا بأس ما لم يعرفوا شيئا بعينه .

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يقول : لا [نحب ] مبايعة من أكثر ماله ربا ، أو ثمن المحرم ما كان ، أو اكتساب المال من المحرم ، وإن بايع رجل رجلا من هؤلاء لم أفسخ البيع ، لأن هؤلاء قد يملكون حلالا ، ولا يحرم حراما بينا إلا أن يشتري الرجل حراما يعرفه ، والمسلم والذمي والحربي في هذا سواء ، الحرام حرام كله .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد احتج بعض من رخص في معاملة من يخالط ماله الحرام بقول الله لما ذكر اليهود فقال : ( سماعون للكذب أكالون للسحت ) . [ ص: 465 ]

                                                                                                                                                                              وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي ، وقد ذكرت إسناد هذا الحديث في كتاب الرهن . واحتجوا بأن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقبلون جوائز قوم .

                                                                                                                                                                              8309 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : رأيت ابن عمر وابن عباس تأتيهما هدايا المختار فيقبضانها .

                                                                                                                                                                              8310 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن ابن عون ، قال : بعث المختار إلى ابن عمر حقائب فيها مال عشرين ألفا فلم يقبلها . قال : فبقيت مطروحة في الشمس حتى كلم فيها فقبلها بعد .

                                                                                                                                                                              8311 - حدثنا علي ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا ثابت ، عن أبي رافع ، أن أبا هريرة قال : ما أحد يهدي إلي هدية إلا قبلتها ، فأما أن أسأل فلم أكن لأسأل . [ ص: 466 ]

                                                                                                                                                                              8312 - حدثنا علي ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن سليمان ابن قتة ، قال : بعث معي عمر بن عبيد الله بن معمر إلى ابن عمر بألف دينار ، وإلى القاسم بن محمد بألف دينار ، قال : فأتيت ابن عمر وهو يغتسل في مغتسله فبسط كفيه فنثرتها في كفيه فقال : وصلته رحم لقد جاءت على حاجة . قال : وأتيت القاسم بن محمد فأبى أن يقبلها ، فقالت امرأته : إن لم يقبلها هذا فأنا ابنة عمه كما هو ابن عمه ، فأعطيتها فكان عمر بن عبد الله يبعث بهذه الثياب العمرية إلى المدينة ، فقال ابن عمر : رحم الله - أو جزى الله - رجلا أكسى هذه الثياب بالمدينة : ثم قال : قد بلغني عن صاحبك شيء كرهته . فقلت : وما ذاك ؟ قال : إنه أعطى أولاد المهاجرين ألفا ألفا ، وأعطى أولاد الأنصار سبعمائة سبعمائة . قال : فكلمته فسوى بينهم . قال : وكان ابن عمر إذا أصاب مالا لم يبدأ بشيء أولى من أن يزوج أياماه .

                                                                                                                                                                              8313 - وحدثنا موسى ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، أن معاوية بعث إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر قوم مائة ألف فقسمته بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 467 ]

                                                                                                                                                                              وكرهت طائفة الأخذ منهم .

                                                                                                                                                                              وممن هذا مذهبه : محمد بن واسع ، وسفيان الثوري ، وابن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، أنكر محمد بن واسع على مالك ابن دينار شيئا أخذه من أمير من أمراء البصرة فقال مالك : اشتريت منه رقابا فأعتقتهم . فقال محمد له : أنشدك الله أقلبك له الساعة على ما كان قبل أن يجيزك ؟ قال : اللهم لا . قال مالك : إنما مالك حمار ، إنما يعبد الله مثل محمد بن واسع .

                                                                                                                                                                              وقد ذكرنا عن الثوري ، وابن المبارك حكايات تدل على نهيهم عما ذكرناه . وكان طاوس يشدد في ذلك ، وقيل له لو أخذته وتصدقت به ولا تعرض لغضبهم ، فقال طاوس : لو علم الناس منه ما أعلم ، يقول : يقتدى بي في الأخذ ، ولا يعلمون أني أخذته فتصدقت به .

                                                                                                                                                                              وقال أبو وائل : لدرهم من تجارة أحب إلي من عشرة من عطائي .

                                                                                                                                                                              وامتنع ابن سيرين أن يقبل من ابن هبيرة ومن عمر بن عبد العزيز ، وقال : ليس بي طعن على عمر ، ولكن الاستغناء عنه . وقال حسن بن الربيع : سمعت ابن المبارك يقول وأخذ قذاة من الأرض فقال : من أخذ منهم مثل هذه فهو منهم .

                                                                                                                                                                              8314 - حدثني موسى ، قال : حدثنا إسحاق بن داود ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن جعفر بن سليمان ، عن مالك بن دينار قال : دخلت على قاسم بن محمد ابن عم الحجاج بن يوسف فأغلظت له القول ، فقال لي : تدري ما يجرئك [علينا ] ويجبني عنك ؟ قال : قلت : لا . قال : إنك لا ترزأني شيئا . قال مالك : فأفادني والله علما . [ ص: 468 ]

                                                                                                                                                                              وروينا أن خالد بن أسيد أعطى [مسروقا ] ثلاثين ألفا فأبى أن يقبلها .

                                                                                                                                                                              وروينا أن ابن عيينة جاء إلى نافع بن محمد وهو جالس في المسجد فسلم ثم جلس ، فقال له نافع : يا أبا عبد الرحمن ما لي أسلم فلا ترد علي .

                                                                                                                                                                              فقال : لا نالك منه كلمة وأومأ إلي رأسه ما دمت تقبل جوائز بني يزيد .

                                                                                                                                                                              وحكى ابن القاسم عن مالك رحمه الله أن بسر بن سعيد أرسل إليه الوليد بن عبد الملك بألف درهم أو خمسمائة درهم فأبى أن يقبله .

                                                                                                                                                                              قال : وعرض عمر بن عبد العزيز على القاسم بن محمد أشياء فأبى أن يقبل ذلك .

                                                                                                                                                                              وبعث رجل إلى سعيد بن المسيب بخمسة آلاف درهم وكان أميرا ، وسعيد يحاسب غلامه في نصف درهم فأبى أن يقبلها . فقال له : أنت تطلب نصف درهم ولا تأخذ هذه الخمسة آلاف ؟! فقال له سعيد : هذا النصف أحب إلي من هذه الخمسة آلاف . [ ص: 469 ]

                                                                                                                                                                              8315 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا الأعمش ، عن شقيق ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : قال أبو بكر : في مرضه الذي مات فيه : انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الخلافة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي ، فإني قد كنت أستحله ، وقد كنت أصيب من الودك نحوا مما كنت أصيب من التجارة . قالت عائشة : فلما مات نظرنا ، فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه ، وناضح كان يسقي عليه ، قالت : فبعثنا بهما إلى عمر ، قالت : فأخبرني جدي أن عمر بكى وقال : رحمة الله على أبي بكر ، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا . [ ص: 470 ]

                                                                                                                                                                              [ ص: 471 ] [ ص: 472 ] [ ص: 473 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية