الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب الشفعة للجار وبيان عللها .

                                                                                                                                                                              8323 - حدثنا محمد بن علي ، حدثنا سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن عمرو بن الشريد ، سمع أبا رافع يقول لسعد بن أبي وقاص : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الجار أحق بسقبه" - أو لسقبه - ما أعطيتك .

                                                                                                                                                                              8324 - حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى قال : سمعت عمرو بن الشريد يحدث عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "المرء أولى بسقبه " . قلت : لعمرو : وما سقبه ؟ قال : الشفعة . قلت : زعموا الناس أنه الجوار . قال : إن الناس ليقولون ذلك . [ ص: 478 ]

                                                                                                                                                                              8325 - حدثنا محمد بن نصر قال : حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : أخبرنا حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن عمرو بن الشريد بن سويد قال هذا أو رجل آخر : يا رسول الله ، أرضي ليس فيها لأحد شرك ولا قسم إلا الجوار . قال : "الجار أحق بسقبه ما كان " .

                                                                                                                                                                              8326 - وقال : حدثنا محمد بن المثنى قال : أخبرنا عبد الصمد قال : أخبرنا همام قال : أخبرنا قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن الشريد بن سويد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الجار أحق بسقب أرضه " .

                                                                                                                                                                              8327 - حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا حجاج بن منهال قال : حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الجار أحق بالجوار " . [ ص: 479 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد تكلم غير واحد من أهل المعرفة بالحديث في هذه الأخبار ، فقال بعضهم : وجدنا رواة عمرو بن الشريد قد اضطربوا في روايته فجعله بعضهم عن أبيه ، وبعضهم عن أبي رافع ، وأرسله بعضهم ، وقال حسين المعلم : عن عمرو بن شعيب ، عن عمرو بن الشريد ، عن أبيه . وقال قتادة : عن عمرو بن شعيب ، عن الشريد . فلما اضطربت الروايات خفنا أن يكون الحديث غير محفوظ فسقط الاحتجاج به . وأما حديث سمرة ، فإن الحسن لم يسمع من سمرة ، [ ص: 480 ] إنما روايته عنه من كتاب وقع إليه . وقال بعضهم : قد قيل إنه سمع منه حديثا واحدا .

                                                                                                                                                                              8328 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : أخبرنا قريش بن أنس ، قال : حبيب بن الشهيد أخبرنا ، قال : أمرني محمد أن أسأل الحسن ممن سمع حديثه في العقيقة ؟ فسألته عن ذلك فقال : سمعته من سمرة . [ ص: 481 ]

                                                                                                                                                                              وقال بعض من دفع الأخبار التي فيها ذكر الجواز : قد اختلف في متون هذه الأخبار ، كما اختلف في أسانيدها ، ففي بعضها "الجار أحق بسقبه " ، وفي بعضها "المرء أولى بسقبه " ، وفي بعضها "الجار أحق بسقب أرضه " ، وفي بعضها : "الجار أحق [بالجوار ] " ، وليس في شيء من الأخبار ما رسمه أصحاب الرأي في كتبهم ، بل جاءت الأخبار مبهمة محتملة للتأويل ، فأما قوله : "المرء - أو الجار - أولى بسقبه " . وإن الصقب القرب كذلك . قال أبو عبيد : وقال : قال الشاعر :

                                                                                                                                                                              كوفية نازح محلها لا أمم دارها ولا صقب

                                                                                                                                                                              وقد حكى الحسن بن محمد عن الشافعي أنه قال : معنى قوله : "الجار أحق بسقبه" في غير الشفعة ، فيكون رجل جارا لزوجته يريد الارتفاق بها فشفع فيها أو لمرفق غير البيع ، ويريد مثل ذلك غير الجار فيكون "الجار أحق بصقبه " ، ويحتمل غير هذا . روينا عن طاوس أنه [ ص: 482 ] سئل عن الشفعة بعد البيع فقال : أولو الأرحام أولى بالبيع من غيره . فهذا طاوس قد زاد : الرحم أحق بالشفعة من الجار . فما حجتكم عليه ، ولعل من يقول بقوله يحتج بالآية ، فإن قلتم : ليس في الآية دليل للشفعة ذكر قبل ، فلذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : الجار أحق بصقبه في الشفعة ولا للشفعة في الخبر الذي احتججتم به ذكر ، وقد يحتمل أن يكون ذلك فيما يجب للجيران بعضهم على بعض من حق الجوار ، ومما للأجنبي من الكرامة والبر وسائر الحقوق التي إذا اجتمع فيها الجار ومن ليس بجار وجب إيثار الجار على الذي ليس بجار من طريق مكارم الأخلاق وحسن الجوار ، لا من جهة الفرض اللازم ، وقد أوصى الله عز وجل بالجار فقال : ( والجار ذي القربى والجار الجنب ) .

                                                                                                                                                                              وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وعلى أنهم لو سلمت لهم هذه الأخبار التي احتجوا بها لكانوا خارجين عن ظاهرها ، لأنهم يزعمون أن الجار اللزيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي بجنبه وليس له حد إلى الدار المشتراة ولا طريق ، أن لا شفعة له ، فقد تركوا ظاهر الأخبار التي احتجوا بها ولم يستعملوها .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : [واعلم ] أنا لو سلمنا لهم خبرهم وبيناه لهم ولم نعللها بشيء من العلل لكان اللازم لمن قال بالأخبار كلها إذا وجد إلى [ ص: 483 ] استعمالها سبيلا أن يجعل حديث أبي رافع مجملا ، وخبر جابر بن عبد الله مفسرا ، وذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة لبعض الجيران دون بعض ، كل جار لم يقاسم جاره دون الجار الذي قاسم جاره ، ألا تراه يقول : "إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " . فهذا كلام مفسر لا يحتمل إلا معنى واحدا ، وحديث أبي رافع يحتمل معاني ، مع قول عوام أهل العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد كل من وقع عليه اسم جوار ، وذلك أن عوام أهل العلم يقولون : إذا أوصى الرجل لجيرانه بمال ، أعطى اللزيق من الجيران وغير اللزيق ، إلا أن النعمان فيما بلغني عنه أنه خرج من قول عوام أهل العلم ، وفارق المتعارف من كلام الناس وقال : لا يعطي إلا اللزيق .

                                                                                                                                                                              كان الأوزاعي يقول : الجار أربعين دارا من كل ناحية . وكذلك قال الزهري : وقال سعيد بن عمرو بن جعدة : من سمع الإقامة فهو جار .

                                                                                                                                                                              8329 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن الثوري وابن عيينة ، عن أبي حيان ، عن أبيه ، عن علي قال : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد . قال الثوري في حديثه : وقيل لعلي : ومن جار المسجد ؟ قال : من سمع النداء .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وخبر عائشة يدل على أن اسم الجار قد يقع على غير اللزيق . [ ص: 484 ]

                                                                                                                                                                              8330 - حدثنا يحيى قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة قال : حدثنا أبو عمران الجوني ، عن طلحة ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، لي جاران بأيهما أبدأ ؟ قال : "بأدناهما بابا " .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد يكون للرجل جار لزيق إلى جنب داره ، وبابه من سكة غير سكته ، وله جار بين بابه وبابه قدر ذراعين وليس بلزيق له ، وهو أدناهما بابا ، وقد يقع اسم الجوار على الشريك غير المقاسم .

                                                                                                                                                                              أخبرني الربيع قال : قال الشافعي : فإن قال : وتسمي العرب الشريك جارا ؟ قيل : نعم ، كل من [قارب ] بدنه بدن صاحبه قيل له جار . فإن قال : فادللني على هذا ؟ قيل : قال حمل بن مالك بن النابغة : كنت بين جارتين لي ، فضربت أحدهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا ، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة .

                                                                                                                                                                              وقال الأعشى لامرأته :


                                                                                                                                                                              أجارتنا بيني فإنك طالقة

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد حرم الله أموال المؤمنين ، ولا يحل أموال بعضهم لبعض إلا بطيب من نفس المعطي منهم ، أو بأمر أوجبه الله أو رسوله ، فلما ثبتت الأخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم بالشفعة للشريك الذي [ ص: 485 ] لم يقاسم ، وكل مختلف بعد ذلك فيه فمردود إلى أصل تحريم الله الأموال في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية