الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              مسألة :

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجل يبيع من الرجل الطعام إلى أجل ، فإذا حل الأجل أخذ بالثمن منه طعاما وقبضه مكانه .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : لا بأس به . هذا قول الشافعي ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : لا يجوز ذلك . كان مالك رحمه الله يقول : ذلك من الربا .

                                                                                                                                                                              وقال طاوس : لا يأخذ طعاما . وقال أحمد ، وإسحاق : لا بأس أن يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجل يبيع السلعة بدين ثم يشتريها بأقل من ثمنها بنقد .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : لا يجوز ذلك .

                                                                                                                                                                              هذا قول مالك بن أنس ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وأبي الزناد ، وعبد العزيز بن أبي شيبة ، والأوزاعي ، وسفيان ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              وروي عن النخعي ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين أنهم كرهوا ذلك ، وقد روي عن ابن عباس حديثا يوافق هذا القول .

                                                                                                                                                                              8165 - حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا بندار ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن ابن عباس في رجل باع حريرة بنسيئة ثم اشتراها بدون ما باعها بنقد . قال : تلك دراهم بدراهم بينهما حريرة . [ ص: 365 ]

                                                                                                                                                                              واحتج بعض من يقول بهذا القول بحديث عائشة رضي الله عنها .

                                                                                                                                                                              8166 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله ، عن سفيان ، قال : حدثنا أبو إسحاق الهمداني ، عن امرأته العالية أن امرأة أبي السفر باعت خادما لها إلى العطاء من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم ، وأنه احتاج إلى بيعها فاشترتها منه بستمائة درهم ، فقالت عائشة حين سألتها عن ذلك : بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ، أبلغي زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده إن لم يتب . قال : أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي .

                                                                                                                                                                              قالت : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) . [ ص: 366 ]

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : لا بأس بذلك باعه السلعة بأقل من الثمن أو بأكثر ، لأن البيعة الثانية غير البيعة الأولى . هذا قول الشافعي ، وأبي ثور ، وقد روي عن ابن عمر خبر يوافق هذا القول :

                                                                                                                                                                              8167 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله ، عن سفيان ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر أن رجلا باع من رجل سرجا فلم ينتقد ثمنه ، فأراد صاحب السرج الذي اشتراه أن يبيعه ، فأراد الذي باعه أن يأخذه بدون ما باعه به منه ، فسئل عن ذلك ابن عمر فلم ير به بأسا ، وقال ابن عمر : فلعله لو باعه من غيره باعه بذلك الثمن أو أنقص .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : واحتجوا - أو من احتج منهم - بأنهم قد أجمعوا على أن المشتري لو وهب السلعة للبائع أن الهبة جائزة ، فلما كانت إذا رجعت كلها إليه بغير ثمن جائز كانت إذا رجعت إليه بأقل من ثمنها مثله . وقد ملك المشتري السلعة ملكا صحيحا ، فليس لأحد أن يحظر عليه أن يفعل في ماله ما يفعله المالك إلا بحجة .

                                                                                                                                                                              ومعروف عند التجار أن ثمن السلعة التي يتأخر قبض ثمنها أكثر من ثمن السلعة نقدا ، فإذا كان هذا معروفا عندهم ، فلم حظر على البائع [ ص: 367 ] شراؤها وأبيح ذلك لغيره ، وكل بيع فجائز إلا بيعا منع منه كتاب ، أو سنة ، أو إجماع . فإن اعتل معتل بخبر عائشة فقد دفع خبر عائشة غير واحد ، وقال بعضهم : أبو إسحاق عن امرأته ، امرأته غير معروفة برواية الحديث ، وقد يجوز لو صح أن عائشة إنما أنكرت البيع إلى العطاء ، لأنه أجل غير معلوم ، ودفع الحديث وترك أن يثبت مثله على عائشة أولى بنا ، إذ غير جائز أن تكون عائشة تقول في بيع يختلف فيه : أبلغ زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب " ، ولو اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في مسألة وثبت ذلك عن عائشة ، كان سبيل ذلك أن يتبع أشبه أقاويلهم بالنظر .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد حكي عن عبد الله بن الحسن أنه قال : أنا أكرهه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : لو انتفى هذا البيع بنفي لكان ذلك حسنا ، فإن خسر الرجل فباع فالبيع لازم ، للحجج التي حكيتها عن أهل هذه المقالة .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجل يقول لصاحبه : (اشتر) سلعة كذا وكذا حتى أربحك فيها .

                                                                                                                                                                              فكرهت طائفة ذلك ، ونهت عنه . وممن كره ذلك : ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وطاوس ، والنخعي ، وقتادة ، وعبيد الله بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق .

                                                                                                                                                                              8168 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن زيد بن أسلم قال : [ ص: 368 ] قلت لابن عمر : الرجل يقول (اشتر) هذا البعير وأشتريه منك ، فكرهه .

                                                                                                                                                                              ورخصت فيه طائفة وقالت : لا بأس به ، وممن كان لا يرى به بأسا : القاسم بن محمد ، وحميد الطويل .

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يجيز هذا البيع إذا اشتراها الرجل وملكها ، ثم باعها من صاحبه .

                                                                                                                                                                              وكان مالك رحمه الله يكره ذلك ، فإن فعلاه ألزم المشتري الثمن الذي اشتراه به ولا يفسخ البيع .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : هذا عندي مكروه ، فإن فعله فاعل كان الجواب فيه كجواب مالك رحمه الله .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجل يشتري من الرجل مائة ثوب فيزيد أو ينقص .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : إذا قال : كل ثوب بعشرة دنانير فوجدها تسعين فالمشتري بالخيار ، فإن زادت على مائة فالبيع مردود . هذا قول سفيان الثوري .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : إذا زاد أو نقص فالبيع فاسد ، لأن الزائد والناقص لا يدرى كم ثمنه ، ولا ما هو من الثياب من جيدها أو رديئها أو وسطها .

                                                                                                                                                                              هذا قول أبي ثور .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث : وهو إن كان خمسين ثوبا فوجدها أحدا وخمسين ، [ ص: 369 ] وقد اشتراها صفقة يرد منها ثوبا . هذا قول مالك . وقال ابن القاسم صاحبه : يرد جزءا من أحد وخمسين جزءا من الثياب .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : إن وجده أحدا وخمسين فالبيع باطل ، وإن سمى لكل ثوب منها عشرة دراهم ، وكان في العدد واحد وخمسين ثوبا فالبيع فاسد ، وإن كانت الثياب تنقص وقد سمى لكل ثوب منها شيئا فالبيع جائز ، والمشتري بالخيار إن شاء أخذ كل ثوب بما سمى وإن شاء ترك .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : إن كانت العلة في إفساد البيع في الزيادة أنه لا يدرى أي ثوب يرد من الثياب فتلك العلة موجودة في النقصان لا يدرى أي ثوب نقص منها من الجياد أو الرديء ، أو الوسط ، وإن كان للمشتري الخيار فلا معنى للخيار في بيع جائز ، فكذلك لا معنى للخيار في بيع باطل ، وإن كان الخيار إنما حصل ، لأنه بيع مستأنف ، فالمعنى في الزيادة والنقصان واحد ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يقول في الرجل يشتري من الرجل صبرة مائة كيل فيجدها خمسين : أنه مخير إن شاء أخذها بحصتها ، وإن شاء فسخ البيع .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ومعنى هذا غير معنى الثياب ، لأن الطعام قد يستوي ، وليست الثياب كذلك ، والله أعلم . [ ص: 370 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية