الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر النهي عن احتكار الطعام بمكة إذ هو من الإلحاد فيها

                                                                                                                                                                              قال الله عز وجل: ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) .

                                                                                                                                                                              7985 - حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، حدثنا عيسى والحسن وغيرهما قالوا: حدثنا أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى بن ثوبان قال: أخبرني عمارة بن ثوبان، حدثني موسى بن باذان قال: أتيت على يعلى بن أمية فقلت: إن عندك مالا فأعطنيه أشتري لك طعاما إذا رخص، وأشتري لك به ودكا إذا رخص. قال: أو تفعل ذلك يا ابن باذان؟! قلت: نعم. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه" . [ ص: 157 ]

                                                                                                                                                                              7986 - حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن مؤمل قال: أخبرني عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء: أن ابن عمر جاء إلى رجل فسأل عنه، قالوا: ذهب ليشتري طعاما. قال: للبيع أو لأهله؟ قالوا: لأهله وللبيع. قال: فأخبروه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام بمكة إلحاد" .

                                                                                                                                                                              قال الحسن: حدثناه مرة رفعه، ثم سمعته بعد لا يرفعه .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أهل العلم فيمن يحرم عليه الاحتكار وفيما يجب أن لا يحتكر فيه [ ص: 158 ] فقالت طائفة: والاحتكار الذي يحرم: الاحتكار في الحرم دون سائر البلدان، واحتجوا بقوله: ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) واحتجوا بخبر يعلى بن أمية وخبر ابن عمر وبقول عمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                              7987 - حدثنا محمد بن إسماعيل ومحمد بن علي قالا: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن ابن خثيم - وهو عبد الله بن عثمان بن خثيم - عن يعلى بن منية قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: "لا تحتكروا الطعام بمكة فإن احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم" .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد روينا هذا القول عن مجاهد. وقال أحمد: الاحتكار بمثل مكة والمدينة والثغور. وفرق أحمد بين مكة والمدينة، وبين بغداد والبصرة، قال: لأن السفر يحتويها - أو قال: يحيها . [ ص: 159 ]

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: يحرم الاحتكار في جميع المواضع، ولم يخصوا سلعة دون سلعة .

                                                                                                                                                                              7988 - حدثنا يحيى بن محمد، حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى الأنصار: أن عثمان كان ينهى عن الحكرة، فكلمه ابن الزبير في مولى له وفي إنسان آخر فتركه .

                                                                                                                                                                              وكان مالك يقول: الحكرة في كل شيء من الطعام، والكتان، والزيت، وجميع الأشياء، والصوف، وكل ما أضر بالسوق يمنع من يحتكره، كما يمنع من الحب، وقال: ليست الفواكه من الحكرة .

                                                                                                                                                                              وسئل الثوري عن حبس القت فقال: كانوا يكرهون الاحتكار .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إنما يحرم احتكار الطعام الذي هو قوت خاصة دون سائر الأشياء .

                                                                                                                                                                              7989 - حدثنا محمد بن علي، حدثنا سعيد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو قال: من كانت له تجارة في الطعام، ولم يكن له تجارة غيرها كان خاطئا، أو طاغيا، أو باغيا . [ ص: 160 ]

                                                                                                                                                                              7990 - وقد روينا عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر الزيت .

                                                                                                                                                                              وكان أحمد بن حنبل يقول: الاحتكار إذا كان من قوت الناس فهو الذي يكره .

                                                                                                                                                                              ورخصت طائفة لمن رفع الطعام من أرضه، أو جلبه من مكان في حبسه، ومنعت من ذلك لمشتريه من السوق للحكرة .

                                                                                                                                                                              7991 - حدثنا محمد بن علي، حدثنا سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة، عن أبيه أن عمر قال: معاذ الله أن يعمد أحدكم إلى فضل ذهب عنده فيحتكر فينا من سوقنا، ولكن ليجلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر يبيع كيف شاء وحيث شاء .

                                                                                                                                                                              7992 - حدثنا محمد بن علي، حدثنا سعيد، حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن جندب، قال: مر عمر بن الخطاب برهط من هذيل قد اشتروا طعاما، فقال: ما تصنعون به؟ أتأكلونه؟ قالوا: لا، ولكنا نتجر فيه. فقال: أفي رقابنا تحتكرون؟! إن أردتم هذا فاذهبوا فاجلبوا. قال: ثم فرق ذلك الطعام بين الناس . [ ص: 161 ]

                                                                                                                                                                              وكان الحسن البصري : يكره أن يشتري الرجل الطعام من المصر فيحتكره، ولا يرى بأسا إذا جاء به من أرض أخرى أن يحبسه ما بدا له .

                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي : إن جالب الطعام من بلد إلى بلد ليس بمحتكر، ولا بأس أن يحبسه ما لم [يحتج] إليه، وإنما المحتكر من اعترض سوق المسلمين. وقال: لا بأس أن يشتري الرجل في سنة الرخص طعاما لسنين لنفسه وعياله مخافة الغلاء .

                                                                                                                                                                              وقال أحمد: إذا دخل الطعام من ضيعته فحبسه فليس بحكرة. وكذلك قال مالك .

                                                                                                                                                                              وقال أبو بكر: احتكار الطعام الذي هو قوت الناس لا يجوز، واحتكار غير الطعام جائز تحريمه، فليس يخلو احتكار معمر وسعيد بن المسيب غير الطعام من أحد معان: إما أن يكونا رأيا أن الاحتكار إنما يحرم بمكة على ما ذكرناه فيما مضى، أو يكونا رأيا أن الذي يحرم احتكاره الطعام دون سائر الأشياء، أو رأيا أن الاحتكار إنما يحرم في وقت الغلاء وحاجة الناس إلى الطعام دون وقت السعة والرخص، إذ غير جائز أن يظن بأنهما ارتكبا ما ذكرا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه .

                                                                                                                                                                              7993 - وقد روى عبدة بن عبد الله الخزاعي، عن زيد بن حباب، عن منصور بن سلمة، عن أبي الزناد قال: قلت لابن المسيب: أنت تحتكر. قال: ليس هذا بالذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالي بها، فإما أن يأتي الشيء وقد اتضع فيشتريه ثم يضعه، فإذا احتاج الناس إليه أخرجه فذلك خير" . [ ص: 162 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية