الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الدعوى في الشراء والهبة والصدقة والوقت في ذلك

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الدار تكون بيد الرجل فادعى رجل أنه اشتراها بمائة درهم ونقده الثمن ، وادعى آخر أنه اشتراها منه بمائتي درهم ونقد الثمن ، ولم تؤقت واحدة من البينتين وقتا . فقالت طائفة : كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن الذي سمى شهوده ، ويرجع على البائع بنصفه ، وإن شاء رده ، فإن اختارا البيع فهو جائز [ ص: 110 ] لهما ، وإن اختار أحدهما البيع واختار الآخر [الرد ] فللذي اختار نصفها بنصف الثمن ، ولا يكون له كلها إذا وقع الخيار من الحاكم ، هذا قول الشافعي في كتاب الدعوى والبينات . الربيع أخبرني عنه ، وبه قال النعمان ويعقوب ومحمد .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وللشافعي قول آخر حكاه أبو ثور عنه أنه قال : أقرع بينهما ، فعلى هذا القول تجعل الدار لمن أصابته القرعة ، ويرجع الآخر على البائع بالثمن .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقال الربيع : وفيه قول آخر أن البيع كله مفسوخ بعد الأيمان إذا لم يعرف أيهما أول وترجع إلى صاحبها الأول ، فمن أقر له المالك أنه باعه أولا فهي للذي باعه (أولا) ، وهو قياس قول الشافعي وهو له في موضع آخر ، وكان أبو ثور يقول : والذي نقول به في هذا - والله يسترشد - أن البيع قد وقع لأحد المشتريين وليس للآخر شيء فلما لم يعلم كان فيها قولان .

                                                                                                                                                                              أحدهما : أن يجبر الحاكم على فسخ البيع حتى ترجع إلى مالكها الأول ثم يبيعها ممن شاء ، ويقبض المشتريين أموالهما .

                                                                                                                                                                              والآخر : إذا كانت الدار في يد البائع حكم عليه برد ما أخذ من المشتريين ، وأوقفت السلعة حتى يتبين لمن هي فيحكم بها ، أو يصطلحا من ذلك على شيء يتراضوا به ، وقال أبو ثور : وإن وقت الشهود وقتا [ ص: 111 ] فهي للأول ويرجع على البائع بالثمن ، وكذلك قال النعمان ، وقال أبو ثور : وإن وقتت إحدى البينتين ولم توقت الأخرى ، كان القول كما قلنا في البينتين إذا لم يوقتا ، وقال النعمان : أقضي بها لصاحب الوقت .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإن لم توقت البينتان ، وكانت الدار في يد أحد المشتريين لم تخرج من يده ، ويرد البائع الثمن على الآخر . كذلك قال أبو ثور والنعمان . وقال أبو ثور : ولو وقتت بينة الذي ليس هي في يده لم ينتفع بها حتى يشهد أن شراءه كان قبل شراء الذي هي في يده فيقضى بها له ورجع الآخر بالثمن ، وبه قال النعمان ويعقوب ومحمد .

                                                                                                                                                                              وإذا كانت الدابة في يد رجل فأقام رجل البينة أنها دابته اشتراها من فلان بثمن مسمى ونقده الثمن وقبض الدابة ، وأقام آخر البينة أن فلانا ذلك وهبها له ، وقبضها منه ، فإن لم يوقت الشهود وقف أمرها حتى يتبين أو يصطلحا عليها وتخرج ممن هي في يده ؛ لأن كل واحد منهما قد ثبت قبضه لها ، وقد يكون باعها بعدما وهبها وقبضها الموهوب له ثم أودعها إياه فباعها ، [وقد ] يكون فتركها المشتري في يد البائع فوهبها وهو لا يملكها ، فلما لم يدر لمن هي منهما أوقف أمرها حتى يعلم أو يصطلحوا في قول أبي ثور . وقال أصحاب الرأي : يقضى [ ص: 112 ] بها لصاحب الشراء ، قال أبو ثور : وكذلك الصدقة والنحل والعمرى إذا كانت مع الشراء توقف ، وقال أصحاب الرأي : يقضى بهما لصاحب الشراء في ذلك كله .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا لم يكن شراء وادعى أحدهما هبة والآخر صدقة ، فإن ذلك يوقف في قول أبي ثور . وقال النعمان ويعقوب ومحمد : يقضى بها بينهما نصفين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان شراء ورهن وأقاما البينة بالشراء والرهن والقبض ، أوقف أمرهما حتى يتبين في قول أبي ثور . وقال أصحاب الرأي : الشراء أولى من الرهن ، والرهن أولى من الصدقة والهبة في قول النعمان ، ويعقوب ، ومحمد ، وهكذا النكاح والصدقة والهبة والشراء في قول أبي ثور ، وقال أصحاب الرأي : النكاح أولى من الصدقة والهبة ، وإذا كان نكاح وشراء كان بينهما نصفين في قول يعقوب ، وقال محمد : الشراء أولى من النكاح ، ويكون للمرأة القيمة .

                                                                                                                                                                              وإذا كانت الدار في يد رجل ، فأقام رجل البينة أنه اشتراها من الذي هي في يده بألف درهم ، فأقام الذي في يده أنه اشتراها من هذا الذي ادعاها بخمسمائة درهم ، فإنها للذي هي في يده ، ولو وقت الشهود وقتا فكان وقت المدعي أولا ، فإنها للذي هي في يده وكان الشراء الآخر يبطل الأول ، وذلك أن الشراء ممن قد ثبت الشيء له ، فالشراء الأخير ها هنا أولى ، ولو وقتت شهود الذي هي في يده الوقت الأول ووقت شهود المدعي الوقت الأخير كان شهود المدعي أولى ، وذلك أنها تشهد أن [ ص: 113 ] هذا الذي في يده قد باعها منه بعدما كانت له في قولهم جميعا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت الأمة في يد رجل ، فأقام رجل البينة أنه اشتراها من هذا الذي في يده بألف درهم ونقده الثمن ، وأقامت الخادم البينة أن مولاها الذي هي في يديه أعتقها البتة ، ولم توقت واحدة من البينتين وقتا ، أوقف أمرها حتى يعلم العتق كان قبل الشراء وإن وقتت البينتان فكانت (بينة) العتق أولا : كانت حرة وبطل الشراء ورجع بالثمن ، وإن كان الشراء أولا بطل العتق ، ولو وقتت بينة العتق ولم توقت بينة الشراء أو وقتت بينة الشراء ولم توقت بينة العتق وقف أمرها ، ولو قامت بينة بالتدبير مكان العتق كان الشراء جائزا وبطل التدبير ؛ لأن المدبر يباع وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم مدبرا هذا قول أبي ثور وبه نقول . وقال أبو ثور : وإذا كان المشتري قد قبض الجارية فإن كانت عند المعتق يشهد أن مولاها أعتقها قبل البيع أبطلنا البيع وأمضينا العتق ، وإن لم يوقت وقتين كانت للمشتري ، لأنها في يده ، ولا يكون عتق البائع إذا كان الشيء في يد المشتري مما يبطل ملك المشتري ، وذلك أني لا أعلم بينهم اختلافا في رجل باع جارية ثم قال بعدما باعها أنها ابنته ، أن قوله ذلك باطل ، ولا يبطل ملك المشتري . فإذا كانت السلعة في يد المشتري لم تخرج من يده بشيء فعله البائع إلا أن [ ص: 114 ] يشهد الشهود أنه فعله قبل البيع . وقال النعمان : أجعلها حرة [و ] أبطل الشراء ، وأرد المشتري على البائع بالثمن . ولو وقتت البينتان وقتا فكان العتق أولا أنفذت العتق وأبطلت الشراء ، وإن كان الشراء أولا كان جائزا والعتق باطل ، ولو وقت بينة الشراء وقتا ، ولم يوقت بينة العتق أبطلت الشراء وأمضيت العتق والتدبير في جميع ذلك مثل العتق البتات ، وإذا كان المشتري قد قبض ، فالشراء أولى من العتق ومن التدبير إلا أن تقوم بينة أن العتق أولا أو يوقتوا وقتا يعرف أنه أول ، وهذا قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، ومحمد ، وقالوا جميعا : وإذا كانت الدار في يد رجل ، أو الأمة ، أو الأرض ، فأقام رجل عليها البينة أنه وهبها له وقبضها ببينة ، وأقام الذي هي في يده البينة على المدعي بمثل ذلك فإنها للذي هي في يده . وكذلك الصدقة في هذا ، والنحل والعطية ، والعمرى ، وكان أبو ثور يقول : وإذا ادعى رجل أنه اشترى هذه (الأمة من فلان بألف درهم ونقده الثمن ، وأنه أعتقها وأقام على ذلك بينة) والأمة في يد فلان ، وأقام الآخر البينة أنه اشتراها من فلان الذي هي في يده بألف درهم ، ونقده الثمن . فإن وقتت البينتان فهي للأول منهما ، وإن لم توقت أوقف أمرها حتى يعلم لمن هي منهما ، ويرد الثمن عليهما إذا كان قبضه منهما حتى يعلم لمن هي فيكون عليه بالثمن . [ ص: 115 ]

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : صاحب العتق أولا يقضى بالخادم له ، ويرد البائع على الآخر الثمن ، وكذلك العتق على مال والتدبير ؛ لأن العتق ها هنا بمنزلة القبض .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا اختصم رجلان في دابة ، أو بقرة ، أو شاة ، أو بعير ، أو ثوب ، أو عبد ، أو أمة ، أو عرض ما كان من العروض كائنا ما كان وهو قائم بعينه ، فإن ادعى أحدهما على صاحبه أمر الذي يدعي عليه بإحضار ما ادعى عليه من ذلك ، فإذا أحضر سأله القاضي عما ادعى عليه من ذلك فإن أنكر حلف ، وإن نكل عن اليمين حلف المدعى عليه ، وكان الشيء له ، وإن كان الشيء في أيديهما تداعيانه ، ولم يكن لهما بينة استحلف كل واحد منهما لصاحبه ، فإن حلفا فالشيء في أيديهما على ما كان ، فإن استهلكه أحدهما استحلف على دعوى صاحبه أنه لم يستهلك له هذا العبد أو السلعة التي يدعي فإن حلف برئ ، وإن نكل حلف الآخر ولزمه ما استهلك . وكان القول في القيمة قول الذي استهلك الشيء ، أو يقيم المدعي البينة على قيمة ما استهلك له ، وكذلك لو استهلكه غيرهما ، هذا قول أبي ثور . وقال أصحاب الرأي : ينبغي للقاضي أن لا يسمع من واحد منهما حتى يحضر الشيء الذي اختصما فيه بعينه إلا أن يكون أحدهما قد استهلكه ، والآخر يدعي أنه له أو استهلكه غيرهما وكل واحد منهما يدعي أنه له ، فإذا وقع الأمر على هذا قبلت منهما البينة ، لأنه مستهلك . [ ص: 116 ]

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجلين يختصمان إلى القاضي في عبد وكل واحد منهما يدعيه متعلق به يقول : هو عبدي وفي يدي ، وهو في أيديهما جميعا ، وهو صغير لا يتكلم فكان أبو ثور يقول : يسألان البينة على ما يدعي كل واحد منهما ، فإن أقام أحدهما البينة أنه عبده ولم يكن للآخر بينة فهو له ، وإن لم تقم لهما بينة أحلف كل واحد منهما لصاحبه ، فإذا حلفا فهو في أيديهما على ما كان ، وإن حلف أحدهما ، ولم يحلف الآخر قيل للذي حلف : احلف أن هذا عبدك وخذه ، وإن كان العبد كبيرا قيل للعبد : من مولاك منهما ؟ فإن أقر أنه عبد لواحد منهما كان عبده ودفع إليه ، ومنع الآخر منه .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : إن لم تقم لهما بينة فهو في أيديهما نصفين على حاله ، ولو كان العبد كبيرا يتكلم ، فقال : أنا عبد أحدهما ، فإنه لا يصدق في قول النعمان ويعقوب ومحمد وهو عبد لهما ، وقال النعمان : لو كان العبد في يد رجل ، فأقر أنه عبد لرجل آخر ، والذي هو في يديه يقول : هو عبدي ، فالقول قول الذي هو في يديه ولا يصدق العبد على ما قال . واحتج أبو ثور بأن الشخص المدعي لو قال : أنا حر كان القول قوله إلا أن تقوم بينة بخلاف ما قال ، فإذا كان هذا قولهم ، وقبلوا قوله : إني حر ، ثم لا يقبلوا قوله أنه عبد لأحدهما دون الآخر . [ ص: 117 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية