الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الخبر الدال على أن المذموم من الشهادة التي يبتدئها الشاهد قبل أن يسألها هي الشهادة التي يشهد بها الشاهد وهو كاذب فيها .

                                                                                                                                                                              6682 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن الزبير أن عمر بن الخطاب [ ص: 246 ] قام بالجابية خطيبا فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا مقامي فيكم فقال : "أكرموا أصحابي ، فإنهم خياركم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يظهر الكذب حتى يحلف الإنسان على اليمين لا يسألها ، ويشهد على الشهادة لا يسألها ، فمن سره بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهم ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن " .

                                                                                                                                                                              6683 - حدثنا محمد بن إسماعيل، قال : حدثنا يحيى الحماني وأحمد بن الحجاج المروزي قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن محمد بن سوقة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن عمر قال : خطب عمر بالجابية فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا مقامي فيكم فقال : "احفظوني في أصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " - ثلاثا - "ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين قبل أن يستحلف ، ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد ، فمن أحب منكم بحبحة الجنة فليلزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، ولا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهم ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن " .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فالفرق بين هذا الباب والباب الأول أن المذموم من الشهادة شهادة الكذب خلاف الشهادة التي يؤديها المرء وهو فيها صادق بار مؤد ما يجب عليه ، والشهادة المذمومة شهادة الكذب التي [ ص: 247 ] لم يستشهد عليها في الابتداء ، بين ذلك في قوله "ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين قبل أن يستحلف ، ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد " .

                                                                                                                                                                              وقد حكى ابن وهب ، عن مالك أنه قال في تفسير معنى خبر زيد بن خالد : أنه الرجل تكون عنده الشهادة في الحق تكون للرجل لا يعلم بذلك فيخبر بشهادته ويرفعها إلى السلطان . قال ابن وهب : وبلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال : من كانت عنده شهادة لا يعلم بها صاحبها فليؤدها قبل [أن ] يسأل عنها ، فإنه كان يقال : من أفضل الشهداء ، شهادة أداها صاحبها قبل أن يسألها .

                                                                                                                                                                              وقال بعض أهل الحديث في خبر زيد بن خالد : خير الشهداء ، من أدى شهادته قبل أن يسألها .

                                                                                                                                                                              اسم الأداء في اللغة لا يقع إلا على من كانت عنده شهادة فأداها ، فأما من هو كاذب في شهادته فغير جائز أن يقال : أدى شهادة كانت عنده ، إذ اسم الأداء لا يقع على ذلك ، ولا يجوز أن يمدح الرسول من شهد بشهادة ليست عنده ، وكذلك لا يجوز أن يذم الرسول من أدى شهادة هو فيها صادق مؤد ما وجب عليه ، وما قد أشهد عليه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد اختلف أصحابنا في هذا الباب ، فقال أبو عبيد بعد أن ذكر خبر زيد بن خالد : وقد روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خير الناس القرن الذي أنا فيهم " .

                                                                                                                                                                              6684 - قال أبو بكر : حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، [ ص: 248 ] قال : حدثنا سعيد ، عن منصور ، عن إبراهيم، عن عبيدة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يخلف قوم تسبق شهادتهم أيمانهم ، وأيمانهم شهادتهم " .

                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد : فالشهادة ها هنا قبل السؤال مذمومة ، وهي في الأولى محمودة والحديثان كأنهما في الظاهر متضادان وليسا كذلك - إن شاء الله - فوجه حديث عبد الله الشهادة - فيما نرى - على أهل المعاصي من المسلمين بالنار ، ولأهل الطاعة بالجنة ، يبين ذلك قول إبراهيم وهو المحدث به عن عبيدة، عن عبد الله قال : فكنا ننهى عن الشهادة والعهد ، ثم فسره في موضع آخر فقال : الشهادة بدعة .

                                                                                                                                                                              قال أبو عبيدة : وقد يدخل هذا الحديث أيضا قول الرجل في منطقه : أشهد بالله لقد رأيت كذا ، وأحلف بالله لقد رأيت كذا ، فتكون شهادته قد ذهبت هدرا ، ما سئلها ، ولا قام بها حكم ، ولا قضي بها حق . وأما الشهادة التي في حديث زيد بن خالد فهي - فيما نرى - كل شهادة لا يسع شاهدها كتمانها إذا ادعي ليقيمها من الحقوق الواجبة ، فعلم أن ربها لا يشعر بمكانها عنده أعلمه ذلك ، فهذا مثل الرجل يطلق امرأته ثلاثا ، أو يعتق جاريته ، ولا تشعر واحدة منهما به ، ومثل الرجل يتزوج [ ص: 249 ] بذات محرم منه من نسب أو رضاع ، ولا يعلم به الزوجان ولا أحدهما ، ومنها الأموال تكون للرجل قبل صاحبه من ديون أو ودائع أو غيرها ، ثم يموت ربها ولا علم للوارث بها . فهذا وما أشبهه مما ينبغي للشاهد إعلام رب الحق إذا علم أنه لا يشعر بذلك . هذا ما في إخبار الطالب للحق ، وأما المطلوب فلا يعلم أحد أوجب على الشاهد إعلامه ذلك إلا أن يسأل عنها ، فإن ابن عباس أمر بإعلامه بعد المسألة .

                                                                                                                                                                              6685 - حدثنا علي بن عبد العزيز، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : من كانت عنده شهادته فليخبر بها ، فإنه لا يدري لعلهم يصطلحون دون السلطان .

                                                                                                                                                                              6686 - وحدثنا علي ، عن أبي عبيد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وزيد بن الحباب ، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : إذا كانت عندك شهادة فسئلت عنها فأخبر بها ولا [تقل ] حتى آتي الأمير فأخبره ، لعله يرجع أو يرعوي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا عندنا هو الوجه ، والواجب عليه فيما نرى ، لأنه إن كتمها بعد المسألة كان قد أتعب الطالب بالسعي ، وأثم المطلوب بالجحد حتى تقوم عليه الشهادة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ومعنى الأخبار التي رويناها عن غير أبي عبيد من أصحابنا على معنى الزور وشهادة الكذب ، والله أعلم . [ ص: 250 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية