الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الشهادة بين أهل الذمة في المواريث

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : أمر الله - جل ذكره - بقبول شهادة من يرضى من المسلمين وأمر الله برد شهادة الفساق من المسلمين قال الله ( والذين يرمون المحصنات ) إلى قوله : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ) فإذا لم تجز شهادة الفساق من المسلمين ، فشهادة من كذب على الله وكفر به ورسله أولى بالرد ؛ لأن الكذاب من أهل الإسلام لما لم تجز شهادته فالكافر الذي كذب على الله أولى بالرد قال الله : ( فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ) ، فلا يجوز لحاكم ولا لغير حاكم أن يقبل شهادة أحد ممن خالف دين الإسلام ، وسواء كان المحكوم له أو المحكوم عليه كافرا ؛ لأن الله - جل ذكره - قال : ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) ، وهذا قول مالك بن أنس ، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وبه قال الحسن البصري ، وقال أصحاب الرأي : وإذا كانت الدار في يد رجل ذمي ، فادعاها ذمي آخر وأقام البينة من أهل الذمة : أن أباه مات وتركها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره ، أنه جائز ويقضى له بالدار ، وكذلك إن كان الشهود من المجوس ؛ لأن الكفر كله ملة . [ ص: 124 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان الرجل معروفا بالنصرانية مات وترك ابنين أحدهما مسلم والآخر نصراني فادعى النصراني أن أباه مات نصرانيا ، وادعى المسلم أن أباه أسلم قبل أن يموت ، وقامت البينة على أن لا وارث للميت غيرهما ، ولم يشهد على إسلامه ولا على كفره غير الكفر الأول ، فهو على الأصل ، وميراثه للنصراني حتى يعلم إسلامه ، وهذا قول الشافعي، وأبي ثور ، وبه نقول .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو أقاما جميعا البينة ، وأقام النصراني شاهدين مسلمين أن أباه مات نصرانيا ، والمسلم شاهدين نصرانيين أن أباه أسلم قبل أن يموت فالميراث للنصراني الذي شهد له المسلمان ولا شهادة للنصرانيين ، وهذا قول الشافعي وأبي ثور ، وقال أصحاب الرأي : نجيز شهادة أهل الذمة ونجعله للمسلم .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا خطأ - يجيز شهادة من يدل الكتاب على رد شهادتهم ، ويرد شهادة من أمر الله عز وجل - بقبول شهادته ، وحكاية هذا القول يجزئ عن الإدخال على قائله لترك صاحبه عين الصواب واتباعه الخطأ .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو أن دارا في يدي [رجلين ] أحدهما مسلم والآخر كافر وأقرا جميعا أن أباهما مات وتركها ميراثا وهما أخوان ، قال المسلم : مات أبي مسلما ، وقال الكافر : مات أبي كافرا ، ولم تكن لهما بينة ، استحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ، فإذا حلف [ ص: 125 ] كانت الدار بينهما كما كانت في أيديهما ، ولا يجوز إخراجها عن أيديهما بغير حجة ، وكان سبيل هذا كسبيل دار بيد مسلم وذمي تنازعاها وادعاها كل واحد منهما ، وهذا قول أبي ثور ، وبه نقول . وقال أصحاب الرأي : إنه يحكم بها للمسلم . والجواب في العبد والأمة والثياب والمتاع والذهب والفضة والحيوان والسلع كلها واحد .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت الدار في يد رجلين فأقرا جميعا أن أباهما مات وتركها ميراثا ، وقال أحدهما : كنت مسلما وكان أبي مسلما ، وقال الآخر : قد كنت أنا أيضا مسلما وكذبه الآخر وقال : كنت نصرانيا وأسلمت بعد موت أبي ، وقال هو : بل أسلمت قبل موت أبي ، وأقر الأخ أن أخاه كان مسلما قبل موت أبيه ، فإن الميراث للمسلم الذي يجمع عليه ، ويكون على الآخر البينة أنه أسلم قبل موت أبيه ، وهذا قول الشافعي وأبي ثور ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وكذلك لو كان عبدا ، فقال أخوه : أعتقت بعد موت أبيك ، وقال الآخر : أعتقت قبل موت أبي ، فإن الميراث للذي أجمعا على عتقه في قولهم جميعا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت الدار في يد ذمي فادعى مسلم أن أباه مات وتركها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره ، وأقام على ذلك بينة من أهل الذمة ، وادعى فيها ذمي مثل ذلك ، وأقام بينة من أهل الذمة فإن الدار لمن هي بيده إذا جحد دعواهم ، ويحلف لكل واحد منهما في قول [ ص: 126 ] الشافعي وأبي ثور وقال أصحاب الرأي : يقضى بها للمسلم ؛ لأن بينة الذمي كفار فلا تجوز شهادتهم فيما يضر بالمسلم (و) ينقصه ، ولو كانت بينة الذمي مسلمين قضي بالدار بينهما نصفين ، وفي قياس قول الشافعي : يقضى بها للذي شهدت له البينة من المسلمين ، وبه قال أبو ثور .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت الدار في يد رجل مسلم ، فقال : مات أبي وهو مسلم ، وترك هذه الدار ميراثا لي ، وجاء أخو الميت وهو ذمي فقال : مات أخي وهو كافر على ديني ، وابنه هذا مسلم ، استحلف الابن على دعوى الأخ وذلك أن الدار في يد الابن ، والأخ يدعي فيها دعوى فلا يصدق على دعواه إلا بحجة ، هذا قول أبي ثور . وقال أصحاب الرأي : لا يرث الأخ مع الابن شيئا ، ولا يكون له قول مع ابنه ، ولو أقاما جميعا البينة على مقالتهما أخذت ببينة المسلم .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الدار يخلفها الرجل في يد ورثته ، فقالت امرأة الميت وهي مسلمة : زوجي مسلم مات وهو مسلم . وقال ولده وهم كفار : بل مات أبونا وهو كافر . وجاء أخو الميت مسلما فصدق المرأة بمقالتها وهو يدعي الميراث ، والولد كفار كبار ، والمرأة مقرة بأن أخاه هذا هو الوارث معها . فكان الشافعي يقول : إن كان الميت [ليس ] معروفا [ ص: 127 ] بالإسلام ولا بالكفر ، كان الميراث موقوفا أبدا حتى يعرف إسلامه من كفره ببينة تقوم عليه . وكان أبو ثور يقول : إن كانت الدار في يد الولد دون المرأة والأخ استحلف الولد للمرأة والأخ ، فإن حلفوا لم يكن للمرأة ولا للأخ شيء . وذلك أنه قد تكون المرأة أسلمت قبل وفاته ، وإن كانت المرأة معهم في الدار وهي تدعي الميراث كان لها الثمن بكينونة الشيء في يدها ، ويستحلف الورثة على دعواهم وقال أصحاب الرأي : يقضى بالميراث لامرأته وأخيه ولا يجعل للولد شيء .

                                                                                                                                                                              وكان أبو ثور يقول : وإذا كان الرجل كافرا ، واختلفوا في إسلامه فهو على كفره لا يصلى عليه حتى يشهد شاهدان أن فلان ابن فلان أقر بالإسلام ، وانتقل على ما كان عليه من الكفر إلى الإسلام ، وهذا قول الشافعي، وقال أصحاب الرأي : إذا كان بعض الورثة مسلمين جعلت القول قولهم .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : كما قال أبو ثور أقول : وإسلام بعض الورثة لا يدل على إسلام الميت وما غاب عنا لا يجوز أن نحكم فيه إلا بيقين وكل ما لم تقم به الحجة فلا يجوز أن نحكم به وقال ابن عباس : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء ناس وأموالهم ، ولكن جعل النبي صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعى عليه واختلفوا في ابنة وأخ ، الابنة مسلمة والأخ كافر (فقالت) : البنت كافرة والأخ مسلم ففي قول أصحاب [ ص: 128 ] الرأي القول قول المسلم منهما ، وفي قول أبي ثور : ينظر إلى الذي بيده الشيء فيجعل له ويستحلف على دعوى الآخر .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا مات الذمي وهو معروف بأنه ذمي ، وورثته كفار كلهم وله امرأة ذمية ، وهي أمة فادعت أنها أعتقت في حياته ، فهي مدعية وعليها البينة أنها قد عتقت قبل موته ، وإذا مات المسلم وله امرأة ذمية ، وادعت أنها قد أسلمت قبل موته فعليها البينة ، فإن لم يكن لها بينة فلا ميراث لها ويحلف لها الورثة ، ولو لم يعلم أنها كافرة وقالت : لم أزل مسلمة ، وقال ورثته : كانت كافرة . فالقول قولها مع يمينها ، وعلى الورثة البينة ، وكذلك لو قالت : لم أزل حرة . وادعت الورثة أنها أمة ، فالقول قولها مع يمينها ، وهذا كله قول الشافعي، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، غير أن أصحاب الرأي لم يذكروا يمينها ولا يمين الورثة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو أن المرأة أقرت أنه طلقها واحدة في صحته وانقضت عدتها ، ثم قالت : راجعني قبل أن يموت ، وقالت الورثة : لم يراجعك فالقول قول الورثة ، لأنها قد أقرت أنها خارجة من ملكه ، وادعت الدخول في ملكه ، فلا يقبل قولها إلا ببينة ، وهذا قول الشافعي، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو قالت المرأة طلقني واحدة ، ولم تنقض عدتي حتى مات ، وقالت الورثة : انقضت عدتها كان القول قولها في قولهم جميعا . [ ص: 129 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية