الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر القوم تختلف دعواهم وتستوي حجتهم

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في الدار يدعيها أربعة نفر ، ادعى أحدهم أن له جميع الدار ، وادعى الآخر أن له ثلثي الدار ، وادعى الثالث أن له نصف الدار ، وادعى الرابع أن له ثلث الدار ، أقام كل واحد منهم شاهدي عدل على دعواه . يحكي بعض أصحابنا أن في هذه المسألة أربعة أقاويل : أحدها : أن الدار تقسم بينهم على ستة وثلاثين سهما يعزل ثلثها وهو اثنا عشر سهما فيدفع إلى مدعي الجميع ؛ لأن مدعي الثلثين ومدعي النصف ومدعي الثلث قد تبرؤوا من هذا الثلث فلم يدعوا فيه شيئا ، ثم يؤخذ سدس الدار ، وهو ستة أسهم من ستة وثلاثين سهما فيقسم بين مدعي جميع الدار ومدعي ثلثيها ، لأنهما جميعا مدعيان لهذا السدس ، وقد أقام كل واحد منهما على دعواه شاهدين فاستويا جميعا في هذا السدس وفي البينة ، وتبرأ منه مدعي النصف ومدعي الثلث ، ويؤخذ سدس آخر فيقسم بين مدعي جميع الدار ومدعي ثلثيها ومدعي نصفها أثلاثا ، لأنهم جميعا قد استووا في الدعوى في هذا السدس ، وفي إقامة البينة عليه ، وتبرأ منه مدعي الثلث ، ويبقى ثلث الدار فيقسم هذا الثلث الباقي بينهم أرباعا ، لأنهم جميعا مستوون في الدعوى في هذا الثلث ، وفي إقامة البينة عليه ، فتصير في يدي مدعي جميع الدار عشرون سهما من ستة وثلاثين سهما من جميع الدار ، وفي يدي مدعي ثلثيها ثمانية أسهم من ستة وثلاثين سهما في جميعها ، وفي يدي مدعي النصف خمسة أسهم من ستة وثلاثين سهما في جميعها ، وفي يدي مدعي ثلثها ثلاثة أسهم من ستة وثلاثين سهما من جميعها . قال : وهذا قياس قولالحارث العكلي ، [ ص: 86 ] وقتادة، وابن شبرمة، وحماد بن أبي سليمان، والنعمان قال : وحجتهم في ذلك من الحديث حديث أبي موسى .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد ذكرناه في كتاب ذكر البينتين إذا تكافأتا بالدعوى في الشيء الواحد ، وحديث سماك ، عن تميم بن طرفة وقد ذكرته فيما مضى ، وحجتهم من النظر أن قالوا : وجدنا كل مدعيين ادعيا شيئا ليس في يد واحد منهما أقام كل واحد منهما شاهدين ، أو لم يقم أحد منهما بينة ، وحلف كل واحد منهما على صاحبه في دعوى ولا بينة فجعلناهما (شيئين) في الشيء الذي ادعياه فقسمناه بينهما .

                                                                                                                                                                              6621 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان ، عن حسن بن صالح ، أن ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وربيعة الرأي قالوا في الرجلين يكون بينهما الكيس يقول هذا : نصفه لي ، ويقول هذا : لي كله . قال ابن شبرمة : للذي قال هو لي كله نصفه خالصا ، ويكون ما بقي بينهما . وقال ابن أبي ليلى : الثلث والثلثان . وقال ربيعة : هو بينهما نصفان :

                                                                                                                                                                              6622 - حدثنا موسى قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الحارث ، في رجلين بينهما مال ، وادعى أحدهما نصفه ، وادعى الآخر الثلثين قال : يعطى صاحب الثلثين نصف المال ؛ لأن صاحب النصف قد برئ من النصف ، ويعطى الذي يدعي النصف الثلث ؛ لأن صاحب الثلثين قد برئ من الثلث ، وبقي سدس فكلاهما يدعيه فهو بينهما نصفين . [ ص: 87 ]

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثان : وهو أن الدار تقسم بينهم على خمسة عشر سهما (لمدعي جميعها ستة أسهم ولمدعي ثلثيها أربعة أسهم ، ولمدعي نصفها ثلاثة أسهم ولمدعي ثلثها سهمان . هذا قول ابن أبي ليلى وناس من أصحاب الرأي ، وكذلك يقولون في رجل أوصى لرجل بجميع ماله ، ولآخر بثلثي ماله ، ولآخر بنصف ماله ، ولآخر بثلث ماله ، فإن أجاز الورثة الوصية فجميع ماله مقسوم بينهم على خمسة عشر سهما يضرب فيه صاحب الجميع بالجميع ، وصاحب الثلثين بالثلثين ، وصاحب النصف بالنصف ، وصاحب الثلث بالثلث ، وإن لم يجز الورثة فثلث ماله مقسوم بينهم على خمسة عشر سهما على ما فسرنا ، وهذا قياس على عول الفرائض .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث : وهو أن ثلث الدار يدفع إلى مدعي الجميع ، لأنه لا منازع له فيه ، ويقرع بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين في سدس الدار فأيهم أصابته القرعة حلف وقضي له به ، ويقرع بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين ومدعي النصف في سدس آخر ، فأيهما أصابته القرعة حلف ، وقضي له به ، ويقرع بين أربعتهم جميعا في الثلث الباقي من الدار فأيهم أصابته القرعة حلف ، وقضي له به ، وهذا قياس قول أحمد [ ص: 88 ] وأبي عبيد وبه كان يقول الشافعي إذ هو ببغداد ثم وقف عنه بعد .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد ذكرنا عن الأوائل في كتاب البينتين تستويان للمتداعيين ، والشيء ليس في أيديهما أخبارا احتجوا ببعض تلك الأخبار ، وبخبر همام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أكره الاثنان على اليمين واستحباها استهما عليها " .

                                                                                                                                                                              وفيه قول رابع : وهو أن (مدعي) الدار يعزل فيدفع إلى صاحب الجميع ويوقف سدس الدار على مدعي الجميع ومدعي الثلثين حتى يصطلحا فيه ، ويوقف سدس آخر على مدعي الجميع ، ومدعي الثلثين ، ومدعي النصف حتى يصطلحوا فيه ، ويوقف ثلث الدار عليهم جميعا حتى يصطلحوا فيه ، ولا يقضى به لأحدهم دون الآخرين ، لأنهم قد تضادوا في الادعاء والبينة . هذا قول أبي ثور ، وقد اختلف عن مالك بن أنس في هذه المسألة فروي عنه أنه قال نحوا مما حكي عن ابن شبرمة ، وروي عنه أنه قال بالقول الآخر الذي ذكر عن أبي ثور ، وفي هذه المسألة قولان آخران قد ذكرناهما فيما مضى .

                                                                                                                                                                              أحدهما : أن الشيء لأكثرهما شهودا إذا اختلفت البينات ، ذكرنا ذلك عن هشام بن هبيرة والشعبي .

                                                                                                                                                                              والقول الثاني : أن يقسم الشيء بالحصص على قدر الشهود . [ ص: 89 ]

                                                                                                                                                                              قد ذكرنا عن مالك أنه قال : يقضى به لأعدل الفريقين وأشهرهما في الصلاح والفضل .

                                                                                                                                                                              وقال بعض من مال إلى القرعة : لا تخلو البينتين اللتين اختلفتا أن تكون إحداهما مبطلة والأخرى صادقة ، فأشكل علينا أمرهما وجب علينا نقرع بينهما قياسا على إقراع النبي صلى الله عليه وسلم في الأعبد الستة الذين أعتقهم الرجل عند موته . وقال الذين قالوا بالقرعة في مسألة الدعوى : لو أن رجلا أوصى لرجل بجميع ماله ، ولآخر بجميع ماله فإن أجازوا الورثة الوصية . قسم مال الميت بينهما نصفين ، وإن لم يجيزوا قسم ثلث مال الميت بينهما نصفين ، وإن أوصى لرجل بجميع ماله [ولآخر بنصف ماله ] ولآخر بثلث ماله قسم ماله بينهم أثلاثا ، للموصى له بجميع المال الثلث ، وللموصى له بنصف المال الثلث ، وللموصى له بالثلث الثلث ، إن أجازت الوصية الورثة . فإن لم يجيزوا الوصية فثلث ماله بينهم على ثلاثة ، وفرقوا بين الوصايا وبين اختلاف المدعيين فيما اختلفوا فيه من قبل أن الذي أوصى لهم بهذه الوصايا قد علم صحتها وأن كل واحد منهم صادق فيما ادعى وبينته صادقة وليس كذلك أمر الذين ادعوا الدار لاستحالة أن يكون جميع الدار لأحدهم في حالة ، ونصف الدار للآخر في تلك الحال ، فعلمنا في مسألة الدار أن إحدى البينتين مبطلة ، وليس كذلك الشهود الذين شهدوا على الوصايا المختلفة . [ ص: 90 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية