الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الدعوى في الميراث

                                                                                                                                                                              واختلفوا في رجل يدعي دارا في يدي رجل ويقيم البينة أن أباه مات وتركها ميراثا ، ولا وارث له غيره ، وادعاها آخر ، وذكر أن أخاه مات وترك هذه الدار لا وارث له غير هذا ، والذي الدار في يديه ينكر ، فكان الشافعي يقول : في هذه قولان أحدهما : أن تكون بينهما نصفين ، والآخر : أن يقرع بينهما ، فأيهما خرجت له القرعة كانت له كلها ، أو تكون الدار بينهما نصفين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد كان يقول إذ هو بالعراق في مثل هذه بالقرعة ، وكان أبو ثور يقول : إن وقتتا البينتان فهي للأولى منهما ، وإن لم توقتا فقد تهاترتا فألقيناهما جميعا واستحلفنا الذي الشيء في يده ، فإن حلف لهما لم يخرج الشيء من يده . وقال أصحاب الرأي : يقضى بالدار بينهما نصفين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت أمة في يد رجل فادعاها رجل وأقام البينة أنها كانت لأبيه وأنه مات ولا يعلمون له وارثا غير هذا وأقام آخر البينة أنه اشتراها من أبي هذا بمائة درهم ونقده الثمن فإنه يقضى بها للمشتري في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهم ، وذلك أن شهادة الشراء تنقض شهادة الميراث ، وكذلك لو شهدوا على صدقة مقبوضة ، أو هبة ، أو نحل ، [ ص: 118 ] أو عطية ، أو عمرى في قولهم جميعا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت دار في يد رجل فأقام رجل عليها البينة أن أباه مات وتركها ميراثا ولم يشهدوا على الورثة ولا يعرفونهم ، فإن القاضي يكلف الورثة البينة أنهم ولد فلان ابن فلان (وأنه) لا يعلمون له وارثا غيرهم ، فإن أقاموا البينة على ذلك دفع الدار إليهم ، وإن لم يقيموا البينة على ذلك وقفت الدار أبدا حتى يأتوا ببينة أنهم ورثته لا وارث له غيرهم ، وهذا قول الشافعي، وبه قال النعمان ، وأبو ثور .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت الدار في يد رجل فأقام رجل شاهدين أن أباه مات وتركها ميراثا ، وأقام آخر شاهدين أن أبا هذا المدعي تزوج عليها أم هذا ، وأن أمه فلانة ماتت وتركتها ميراثا فإنه يقضي بها لابن المرأة ؛ لأن الرجل قد خرج منها حيث تزوج عليها ، وهذا مثل خروجه منها بالبيع ، هذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهم ، وبه نقول .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وفي شهادة رجلين على شهادة رجلين قولان : أحدهما : أن لا يجوز على شهادة كل رجل إلا رجلين هذا قول الشافعي، ومال أبو ثور إلى هذا القول . [ ص: 119 ]

                                                                                                                                                                              والقول الثاني : أن شهادة رجلين على شهادة رجلين جائزة هذا قول أصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق في قول الشافعي وأبي ثور ، وشهادتهن جائزة في النكاح والطلاق في قول أصحاب الرأي . وإذا كانت الدار في يد رجل فأقام رجل عليها البينة أن أباه [مات ] وتركها ميراثا له ، ولم يشهدوا على الورثة ولم يعرفوهم ، وإن القاضي يقبل بينة هذا الوارث فإن ثبت ذلك أعطاه منه بقدر حصته ، وإن لم يثبت أوقفت الدار حتى يحضر الورثة ، هذا قول أبي ثور ، وهو على مذهب الشافعي . وقال أصحاب الرأي : إن لم تقم البينة على أنهم لا يعلمون له وارثا غيره لم يدفع إليه شيء حتى يحتاط القاضي وينظر ثم يدفع بعد ذلك إليه ، ويأخذ منه كفيلا بما يدفع إليه من شيء ، وكان الشافعي والنعمان يقولان : لا يؤخذ من الوارث كفيل بشيء مما يدفع إليه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت الدار والأرض في يدي رجل فأقام آخر البينة أنها دار أبيه ولم يقولوا : مات وتركها ميراثا . فإن القاضي لا ينظر في أمره إلا أن تثبت البينة على وفاة الرجل أو وكالته ، وكذلك لو شهدوا أن الدار كانت لجده ، لم يحكم له بشيء حتى يشهدوا أن جده مات وتركها ميراثا [ ص: 120 ] لا وارث له غيره إلا أن يشهدوا على وفاة الجد فيأخذها القاضي من يدي الذي هي في يديه ، فيضعها على يدي عدل حتى يثبتوا عدة ورثته ، وهذا قول أبي ثور ، وقال يعقوب : أقضي بها للجد ، وأجعلها على يدي عدل حتى يصححوا عدد ورثة الجد وعدة ورثة الجد ، فإذا صح قضيت له بحصته من ذلك ، وفي النعمان ومحمد : لا يقضى له حتى يشهدوا أنه وارث جده لا يعلمون له وارثا غيره .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو شهدوا أن جده مات وتركها ميراثا لأبيه ، لا يعلمون له وارثا غيره ، وتوفي أبو هذا وتركها ميراثا لا يعلمون له وارثا غيره ، قضى بها له ، وهذا قياس قول الشافعي، وبه قال أبو ثور ، والنعمان، ويعقوب ، ومحمد .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فإذا أقام رجل بينة على دار أن أباه مات وتركها ميراثا بينه وبين إخوته فلان وفلان وفلان لا وارث له غيرهم ، وإخوته غيب . قضيت للذي حضر بقدر حصته منها ، وجعلت الباقي على يدي عدل حتى يحضر الغيب ولا أدفعها كلها إلى الذي حضر إلا بوكالة من إخوته له ، هذا قول أبي ثور . وقال بعض أصحاب الرأي : يدفع إلى الذي حضر حصته منها وأدع الباقي في يد المدعى عليه ، وقال يعقوب ومحمد : إذا كان هذا الذي الدار في يده منكرا نزعنا الدار من يده وأعطيت هذا الحاضر حصته ، وأوقفنا الباقي على يدي عدل حتى يحضر الغيب ، وقال النعمان ويعقوب ومحمد : إن أقر الذي في يديه الدار [ ص: 121 ] بأنها دار أبيهم ، وأقر بعدد الورثة ، فإنه يدفع إلى هذا الشاهد حقه ، ويترك حق الغيب في يد المقر .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وبه قال أبو ثور ، وكذلك نقول .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت دار في يد ورثة وأحدهم غائب فادعى رجل أنه اشترى من الغائب نصيبه ، وأقام على ذلك بينة ، فإن بينته تقبل في قول الشافعي وأبي ثور ، وكذلك نقول . وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بنفقة هند وأولادها ، وليس أبو سفيان بحاضر وقت قضى عليه . وقال أصحاب الرأي : لا تقبل بينته على الغائب وهو خصمه . وهم يقضون على الزوج الغائب بنفقة زوجته ويؤخذ بها كفيل ، ويقولون : لو أن رجلا غائبا وكل وكيلا في بيع ضياعه وأمواله وأشهد له شاهدين ، فأثبت الوكالة للوكيل وصاحبه غائب كان له بيع ضياعه وأمواله وقبض أثمان ذلك كله ، وكل هذا ترك منهم لأصولهم ورجوع فيما منعوا مثله واختلاف من القول .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كانت الدار في يدي رجل وابن أخيه ، فادعى العم أن أباه مات وتركها ميراثا له لا وارث له غيره ، وادعى ابن الأخ أن أباه مات وتركها ميراثا له لا وارث له غيره ، فإن لم يكن لواحد منهما بينة فإنه يقضى بها بينهما نصفين في قول الشافعي، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، وكذلك نقول . [ ص: 122 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو لم تكن المسألة هكذا ، وقال العم هي بين والدي وأخي نصفين ، وأقر ابن الأخ بذلك وأقام العم البينة أن أخاه مات قبل أبيه فورثه أبوه وابنه لا وارث له غيرهما ، ثم مات أبوه فورثه هو لا وارث له غيره ، وأقام ابن الأخ البينة أن الجد مات قبل ابنه وأن ابنيه ورثاه أحدهما أبو ابن الأخ ، والآخر العم عن هذا الباقي لا وارث له غيرهما ، وأن أباه مات بعد الجد فورثه ابن الأخ لا وارث له غيره ، فقال النعمان ويعقوب ومحمد : يقضى بنصيب كل واحد منهما لورثته الأحياء ، ولا يورث الأموات من ذلك شيئا يقضى بنصف الدار للعم ، وبنصف الدار لابن الأخ . وكان أبو ثور يقول : إن وقتت البينتان حكمنا بالأولى منهما ، وإن لم يوقتا كانتا قد تهاترتا فأبطلناها جميعا ، وكانت الدار بينهما نصفين على ما كان في أيديهما ، وقد حكى الشافعي فيها أقاويل أحدها : قول من قال بالقرعة ، والآخر : طرح البينات ؛ لأن بعضها يكذب بعضا ، وأن الدار للميتين يورث ورثتهما .

                                                                                                                                                                              6625 - حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى قال : اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعير ليس لواحد منهما بينة ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : يشبه أن يكون الشيء كان بأيديهما ، فقضى به بينهما على ما بأيديهما . [ ص: 123 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية