الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              مسائل من كتاب الشهادات

                                                                                                                                                                              وإذا أحضر القوم رجلين وقالوا لهم : لا تشهدوا علينا بما نقول فقالوا : نعم . ثم أقر بعضهم لبعض بشيء معلوم ، ثم سألهم المدعي من القوم الشهادة أدوها ولم يسعهم كتمان الشهادة ، وهذا قول محمد بن سيرين ، و [به] قال مالك بن أنس ، وسفيان الثوري .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا سئل الشاهد شهادة قبله فقال : ليس عندي شهادة ، ثم أدى الشهادة ، وجب قبولها منه ، لأنه قد يذكر بعد النسيان ، وهذا قول سفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                                                                                                              وإذا شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده فردت شهادتهما ، ثم اشتراه أحدهما عتق عليه في قول مالك ، والأوزاعي ، وجماعة ، غير أن مالكا قال : وولاؤه للبائع .

                                                                                                                                                                              وإذا ادعى رجل قبل رجل مالا معلوما ، وجحد المدعى عليه ، فأقام المدعي بينة أن له قبله حقا ، ولم تبين البينة كم الحق ، فإن للمدعي أن يستحلف المدعى عليه ، ولا يجب الحكم ببينة تشهد بشيء غير معلوم ، وهذا على مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي ثور . [ ص: 373 ]

                                                                                                                                                                              وقد اختلف في هذه المسألة ، فروينا عن القاسم بن عبد الرحمن أنه قال في قوم شهدوا على رجل أنه غصب آخر طعاما قال : لا أقضي بشيء حتى يخبروني بكيل ما أخذ من الطعام .

                                                                                                                                                                              وروينا عن الشعبي أنه قال في رجل ادعى على رجل حقا فجاء بشاهدين ، شهد أحدهما على الحق ، وقال الآخر : لا أحفظ العدة ، فقال الشعبي : تجوز شهادتهما .

                                                                                                                                                                              وسئل مالك عن الذي يقيم البينة أنه أخذ منه ثوبا ، ويجحد الآخر أن يكون أخذ منه شيئا . فقال : ما كنت أرى بأسا أن يجعل من أوسط الثياب ، ثم يحلف المدعى عليه . قال ابن عبد الحكم محمد : يكون له أقل ثوب ، ويحلف الورثة ما يعلمون أن له أكثر من هذا .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الشهادات على الصدقات ، والأنساب ، والولاء ، من جهة الخبر الدامغ المستفيض ، فكان مالك بن أنس يقول في الأحباس : يكون من شهد عليها قد ماتوا ، ويأتي قوم من بعدهم يشهدون على السماع أنهم لم يزالوا يسمعون أنها حبس تجاز بما تجاز به الأحباس ، قال مالك : ليس عندنا أحد ممن يشهد على أحباس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا على السماع . قال مالك : شهادة السماع في الأحباس والولاء جائزة ، وعلى الدور . قال مالك : هاهنا دور تعرف لمن أولها بالمدينة قد تداولها قوم بعد قوم بالشراء ، وهي اليوم لغير أهلها . وكان عبد الملك يقول : أقل ما يجوز في الشهادة على السماع أربعة شهداء رجال من أهل العدل أنهم لم يزالوا يسمعون أن هذا [ ص: 374 ] الدار صدقة على بني فلان محبسة عليهم ، ولم يزالوا يسمعون أن هذا الحائط صدقة على بني فلان مما تصدق به عليهم فلان ، ولم يزالوا يسمعون أن فلانا مولى فلان ، قد تواطأ ذلك عندهم ، وكثر سماعهم ، وفشا ذلك عندهم من كثرة ما سمعوا به من الناس من العدل وغير العدل ، والمرأة والعبد والخادم قد تواطأ ذلك عندهم وكثر سماعهم ، فهذا وما أشبهه مما تجوز فيه شهادة السماع .

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يقول : ولا يسع شاهدا أن يشهد إلا بما علم ، والعلم من ثلاثة وجوه ، منها : ما عاينه الشاهد فشهد بالمعاينة ، ومنها : ما [سمعه] فيشهد بما أثبت سمعا من المشهود عليه ، ومنها : ما تظاهرت به الأخبار ، فمن ذلك الشهادة على ملك الرجل الدار ، والثوب على تظاهر الأخبار ، لأنه مالك للدار وعلى أن لا يرى له منازعا في الدار . وعلى النسب إذا سمعه ينتسب زمانا أو سمع غيره ينسبه إلى نسبه ، ولم يسمع دافعا له ، ولم تر دلالة ترتاب بها .

                                                                                                                                                                              وأما أصحاب الرأي فمذهبهم : أن الشهادة على النسب جائزة إذا كان معروفا مشهورا ، أو يشهد بذلك عنده عدلان ، وكان النعمان ويعقوب يقولان : إذا شهد شاهد أن فلانا أعتق فلانا ، وأنه مولاه ، وعصبته لا وارث له غيره ، فإن كانا أدركا الذي أعتق ، وسمعا العتق منه فشهادتهما جائزة ، وإن كانا لم يسمعا العتق منه ، فلا تجوز شهادتهما [ ص: 375 ] ثم [رجع] يعقوب فقال : إذا شهدوا على ولاء مشهور فهو كشهادتهم بالنسب ، وإن لم يدركوا ذلك ، ولم يسمعوه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : أما الشهادة على النسب المشهور فإني لا أعلم أحدا من أهل العلم يمنع منه ، بل كل من نحفظ عنه منهم يقول به ، وأما غير النسب مما يختلف فيه ، فالوقوف عن الحكم بالشهادة بالسماع فيه يجب ، لأني لا أعلم حجة توجب شيئا منه .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الشهادة على القتل : فكان كل من نحفظ قوله من أهل المدينة وأهل الكوفة ، والشافعي ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي يقولون : تقبل على القتل ، عمدا كان القتل أو خطأ شاهدين عدلين ويحكم بشهادتهما ، غير الحسن البصري فإنه كان يقول : الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا لا تجوز إلا شهادة أربع .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : كان - يعني الحسن - أن المحصن إذا شهد عليه أربعة بالزنا يجب قتله بالرجم ، وكذلك قاتل العمد لولي المقتول أن يقتله ، وكأنه شبه أحدهما بالآخر ، وهذا غير جائز; لأن المخصوص لا يجوز القياس عليه ، وقد خص الله - جل وعز - الشهادة على الزنا فجعلها لا تقبل أقل من أربعة شهداء .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في أربعة شهدوا على رجل بالزنا والإحصان ، ثم غابوا أو ماتوا قبل أن يزكوا ، ثم زكوا . [ ص: 376 ]

                                                                                                                                                                              ففي قول مالك ، والشافعي ، وأبي ثور : يقام عليه الحد بشهادتهم ، وقال النعمان : إذا غابوا أو ماتوا فلم يقم الحد حتى يحضروا من قبل أنهم قد يرجعون .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : كما قال مالك والشافعي أقول ، وقد ذكرت هذه المسألة في كتاب الحدود .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد روينا عن خالد بن يزيد الهمداني أنه قال : شهد أبي ومكحول على امرأة من وراء الحجاب فسمعا من قولها فقال : إي والله حتى تحسرين عن وجهك ففعلت (ونظرا) إليها ، وقاما .

                                                                                                                                                                              وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : لا تشهد إلا على من تعرف . وقال أحمد بن حنبل : لا تشهد على رجل لا تعرفه ، ولا تشهد إلا لمن تعرف . وقال الزهري في الشهادة على المرأة من وراء الستر قال : إن عرفتها فاشهد ، وإن لم تعرفها فلا تشهد .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : الشهادة على من لا تعرف اسمه ونسبه تفترق على وجهين أحدهما : شهادة على فعل ، والآخر : على إقرار ، فما كان من شهادة على فعل شهده وعاينه فعليه أن يشهد به ، وإذا عرفه الفاعل [ ص: 377 ] باسمه ونسبه ، أو عرف شخصه إذا أثبت الشخص عند أداء الشهادة ، وهذه شهادة يوقن مؤديها أنه قائم بحق فيها ، وكذلك الشهادة على الإقرار يقر الرجل بمال أو طلاق أو نكاح أو بعتق يجب عليه القيام بذلك ، وهذا يجب أيضا أن يحكم به .

                                                                                                                                                                              والوجه الثاني : أن يشهد على إقرار رجل أو امرأة لا يعرفهما ، فمات المشهود عليه أو غاب ، فهذا لا يجوز أن يشهد على من لا يعرفه باسمه ونسبه ، وقد غاب عنه شخصه ، فليس يمكنه أن يشير إليه ، والفرق بين هذا الباب وبين الباب الأول ، أن الأول يشير إلى شخص بعينه بأنه فعل كذا أو قال كذا ، ولما غاب المشهود عليه في الباب الثاني وقع العجز بموته أو غيبته أن يشير إلى شخص بعينه والله أعلم . [ ص: 378 ]

                                                                                                                                                                              [ ص: 379 ] [ ص: 380 ] [ ص: 381 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية