الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الشهادة في الولادة في النسب

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان العبد صغيرا في يد رجل يدعي أنه عبده فالقول قوله إذا كان لا يعبر عن نفسه بمنزلة الثوب يكون بيد الرجل ، فإن ادعى آخر أنه ابنه فهو مدع وعليه البينة ، فإن شهدوا [أنه ابنه ] ولم يزيدوا على ذلك ففيها قولان : أحدهما : قول أبي ثور : أنه يقضى له بالنسب ، ويجعل ابنه وهو عبد للذي هو في يديه لاحتمال أن تكون أمة تزوج حرا ، فيكون الولد [رقيقا ] بأمه ، ويكون نسبه ثابتا .

                                                                                                                                                                              والقول الثاني : أنه يلحق به نسبه ، ويجعل حرا من قبل النسب الذي شهدوا له به . هذا قول أصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              وكذلك عند أصحاب الرأي : لو كان الأب من العرب أو من قريش أو من الموالي أو حر من أهل الذمة فهو سواء ويقضى به للأب ويكون حرا . وكان أبو ثور يقول : إذا كان الأب [عربيا ] فإنه يقوم على أبيه ولا يسترق ، قال : كذلك قضى عمر بن الخطاب في أبناء العرب من الآباء ، وإذا كان الأب مولى أو غير ذلك فهو ابنه ويكون رقيقا .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : يكون عبدا وإن كان من العرب ، واحتجوا بأخبار ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن جميع أولاد الإماء من غير ساداتهم يجري [ ص: 130 ] عليهم الرق ، فمن ذلك :

                                                                                                                                                                              6626 - أن محمد بن إسماعيل حدثنا ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أن عمر قال بالجعرانة : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف عند البيت . قال : "فاذهب فاعتكف عند البيت " ، فذهب فاعتكف فسمع ناسا يقولون : أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق حنين ، ومعه غلام رقيق حنين ، قال : فاذهب فأنت حر .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولم يكن يعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم حرا ، وإنما أعتق من قد ثبت الرق عليه ، وكذلك عمر إنما أعتق ما يملك ، وهؤلاء قوم من العرب قد جرى عليهم الرق بالسبي ، وإذا ثبت ذلك بالسنة وجب استعماله في كل موضع ، ومن ذلك :

                                                                                                                                                                              6627 - أن علي بن عبد العزيز حدثنا ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، قال : حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال : لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها فيهم ، قال : "هم أشد أمتي على الدجال " ، وكانت منهم سبية عند عائشة فقال : "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل " ، قال : وجاءت صدقاتهم فقال : "هذه صدقات قومنا " . [ ص: 131 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد اختلف في هذه المسألة : فروينا عن عمر بن الخطاب أنه كان يرى أن لا رق على ولد الرجل العربي عن الأمة وأن أولاده يقومون عليه .

                                                                                                                                                                              6628 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال لي عمر : اعقل عني ثلاثا : الإمارة شورى ، وفي فداء العرب مكان كل عبد عبد ، وفي ابن الأمة عبدان ، وكتم ابن طاوس الثالثة .

                                                                                                                                                                              6629 - وحدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبد الله بن عون ، عن غاضرة العنبري قال : أتينا عمر بن الخطاب في نساء ساعين في الجاهلية - يعني بغين - فأمر أن يقوم أولادهن على آبائهم ولا يسترقوا .

                                                                                                                                                                              6630 - وروينا عن ابن المسيب أنه قال في المولى ينكح الأمة : يسترق ولده ، وفي العربي ينكحها : لا يسترق ولده ، وعليه قيمتهم .

                                                                                                                                                                              6631 - وقد كان الشافعي يروي عن عمر أنه قال : لا يسترق عربي . [ ص: 132 ]

                                                                                                                                                                              وقال : السباء فيهم منسوخ ، ثم قال بمصر : قد سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وهوازن وقبائل من العرب ، وأجرى عليهم الرق حتى من عليهم . فزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلق سبي هوازن قال : لو كان تاما على أحد من العرب سبيا لتم على هؤلاء فمن أثبت هذا الحديث زعم أن الرق لا يجري على عربي بحال ، ومن لم يثبته ذهب إلى أن العرب والعجم سواء ويجري عليهم الرق .

                                                                                                                                                                              وكان سفيان الثوري وإسحاق يقولان في العربي يتزوج الأمة فتلد : لا يسترقون بعدهم . وبه قال أبو ثور .

                                                                                                                                                                              وقال مالك وأصحاب الرأي : إذا علم أنها أمة فأولاده رقيق . واحتج بعض من قال هذا القول بالأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر هوازن ، وأنهم لما كلموا النبي صلى الله عليه وسلم ترك حقه وحق من أطاعه منهم ، وكل من لم تجبه نفسه بترك حقه ، وضمن لكل رأس شيئا ذكره ، فأما ما ذكره الشافعي عن زعم من زعم أنه قال : "لو كان تام على أحد من العرب سبيا لتم على هؤلاء " فلا أصل له ، وإنما ذكره عن غيره [ ص: 133 ] ولم يذكر له إسنادا فينظر فيه ، وقد عارض ذلك الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعتق رقيق حنين ، وقد ذكرنا إسناده ، وأن عمر قال لغلام من رقيق حنين : أنت حر ، وهذا أصح الحديثين ، ويؤيده حديث عائشة .

                                                                                                                                                                              6632 - حدثنا أبو يعقوب يوسف بن موسى ، قال : حدثنا أبو موسى قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبيد أبي الحسن قال : سمعت ابن معقل - هو عبد الرحمن - قال : كان على عائشة محرر من ولد إسماعيل ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي من بني العنبر ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعتقي من بني العنبر أو من بني لحيان ، ولا تعتقي من خولان " .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرناه ولم يعارض ذلك أخبار غيرها ، وإنما يؤخذ الدين والأمر والنهي وأحكام الإسلام كلها عنه صلى الله عليه وسلم ، والأخبار والنظر على ذلك تدل ، فأما الأخبار فقد ذكرناها ، وأما النظر فدال على ذلك ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سوى بين الناس عامة في الدماء ، فقال : "المسلمون تكافأ دماؤهم " فسوى بينهم في الدماء ، وأجمع أهل العلم على القول به فيما دون الدماء فحكمه حكم الدماء ، وكل مختلف فيه فمردود إلى أخبار النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 134 ] وإلى ما أجمع عليه أهل العلم .

                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن حنبل : قد اختلفوا فيه ، وذكر حديث بني المصطلق حين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم وحديث عائشة الذي ذكرناه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان غلام صغير في يدي رجل فادعى أنه ابنه ، وادعى آخر أنه ابنه وأقام على ذلك البينة ، فإن نسبه يلحق بالذي أقام عليه البينة في مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور ، وكذلك نقول .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : يقضى به للمدعي ويثبت نسبه منه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان الذي هو في يده حر يدعيه ، والذي أقام البينة عبد أو ذمي ، فإن نسبه يثبت من المدعي ويلحق به شهادة الشهود ، ويكون الصبي عبدا للذي هو في يديه في قول أبي ثور .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي كما قال أبو ثور ، إلا في الصبي ، فإنهم قالوا : يكون حرا .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور ، وأصحاب الرأي : إذا كان الصبي في يد رجل فادعى أنه ابنه ، وأقام على ذلك بينة ، وادعى رجل آخر أنه ابنه وأقام على ذلك بينة ، فإنه للذي هو في يديه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وكذلك نقول .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان عبدا امرأته أمة وفي أيديهما صبي / فادعاه رجل من العرب ، وأقام البينة أنه ابنه من امرأته هذه وهي من العرب ، وأقام العبد البينة أنه ابنه فإنه ابن العبد الذي في يديه . وهذا قول أبي ثور [ ص: 135 ] ، وبه نقول ، وليس بين العرب والعجم فرق في أحكام الله ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المؤمنون تكافأ دماؤهم " يدل على أنهم يستوون في غير الدماء .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : يقضى به للعربي ولامرأته للعتق الذي دخل فيه ، وقال أصحاب الرأي : وكذلك لو كان من الموالي قضينا به لهما وجعلناه حرا للعتق الذي دخل فيه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان صبي في يد رجل فادعاه رجل أنه ابنه وأقام على ذلك بينة وأقام رجل آخر بينة أنه ابنه من امرأته هذه ، فإنه يقضى به للذي هو في يده ، في قول أبي ثور .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : يقضى به للمدعي لأن نسب هذا قد يثبت من أمه .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا كان الصبي في يد رجل فادعاه رجل آخر ، وأقام البينة أنه ابنه ، وشهد آخران أن الذي في يديه أو عندهم أنه ابنه قالوا : فإنا نقضي به للمدعي ودعواه وإقراره بمنزلة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان الصبي لقيطا في يد رجل فادعاه رجلان ، وأقام كل واحد منهما البينة أنه ابنه ولد على فراشه من امرأته هذه فإن البينتين قد تدافعتا وإحداهما كاذبة فلا يقضى بواحدة منهما ، فكأنهما رجلان ادعيا ولدا ففيها قولان : أحدهما - وبه أقول - أن يرى القافة [ ص: 136 ] فبأيهما ألحقوه لحق . وهذا على مذهب أبي ثور .

                                                                                                                                                                              والقول الثاني : أن يكون ابن المرأتين والرجلين ، ويقضى به لهما جميعا ، وهذا قول بعض أصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا قول يبعد من الصواب ويقرب من المحال ، بل هو المحال وهو خطأ لا يخفى على الناظر فيه ، وذلك أن من المحال أن يكون ولدا واحدا من امرأتين ، ولا شك أن صاحبه قد علم أن ما قاله محال لا يجوز كونه . قد اختلف أهل العلم .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : يكون الرجل بين رجلين ، لاحتمال أن يختلط [الماءان ] ؛ لأن الرجلين قد يشتركان في الوطء ، ولا يجوز أن يتوهم أن المرأتين تشتركان في الحمل ، فأما القافة التي ذكرناها فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على قبول قولها وقضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بحضرة المهاجرين والأنصار ، فلم يدفعه أحد منهم .

                                                                                                                                                                              وقال يعقوب ومحمد : يجعله ابن الرجلين ، ولا يجعله ابن المرأتين . [ ص: 137 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية