الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر شهادة الأعمى

                                                                                                                                                                              واختلفوا في شهادة الأعمى .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : شهادته جائزة . كذلك قال محمد بن سيرين ، والشعبي والزهري ، وعطاء بن أبي رباح . وسئل القاسم بن محمد عن شهادة الأعمى : هل تجوز شهادته ويؤم ؟ قال : وما يمنعه من ذلك .

                                                                                                                                                                              وقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى : شهادته جائزة . واحتج مالك بأن الناس إنما حفظوا عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما حفظوا عنهن من وراء حجاب قال : وقد كان ابن أم مكتوم أعمى إماما مؤذنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أثبت الأعمى وعرف جازت شهادته .

                                                                                                                                                                              قال مالك : وكذلك الرجل إذا شهد على المرأة من وراء سترة ، وقد عرفها وعرف صوتها وأثبتها قبل ذلك ، فشهادته جائزة عليها ، [ ص: 265 ] واحتج له بعض أصحابه فقال : الشهادة موكلة إلى معرفة لمن شهد عليه ، وأمانته على ذلك ، والبصير يعرف الناس بالرؤية ويستيقن ذلك ، والضرير يعرف الصوت ويستيقن على ذلك ، وهما مؤتمنان على تيقنهما ، وقد يشهد على البصير على الشخص فتقبل شهادته ، والشخص قد يشبه الصوت ، فإن زعم من يخالفنا أن الضرير لا يستيقن على معرفة صوت الإنسان ، فإنه لا ينبغي له أن يجيز له أن يروي عن محدث ، ولا ينبغي له أن يغشى زوجته ولا أمته إذا كان لا يستيقن أنهما هما بأعيانهما ، فإن زعم أنه يجوز له ذلك ، لأنه قد يستيقن على زوجته وأمته قيل له : فما تقول إن شهد على زوجته بشهادة ، فإن زعم أنها جائزة عليها فقد زعم أنه يستيقن على من يعرف ، وإن زعم أنه لا يجوز ذلك ، لأنه لا يستبينها فكيف يجوز أن يغشى امرأة لا يدري أهي امرأته أم لا ؟ وإنما تجوز شهادة الأعمى على الإقرار دون أفعال الأبدان من الزنا والسرقة وغير ذلك .

                                                                                                                                                                              6701 - حدثنا علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيد قال : حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة ، عن عبد الرحمن بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : قدموا العبد إذا كان صالحا ، وأشهدوا الأعمى .

                                                                                                                                                                              وأبطلت طائفة شهادة الأعمى ، وممن قال : لا تجوز شهادة الأعمى : إبراهيم النخعي ، وأبو هاشم ، والشافعي، والنعمان .

                                                                                                                                                                              واختلف فيه عن الحسن البصري ، فحكى الأشعث عنه أنه قال : شهادة الأعمى جائزة ، وحكى يونس وعمرو عنه أنه قال : لا تجوز [ ص: 266 ] شهادته . واختلف فيه عن إياس بن معاوية ، فذكر أيوب أبو العلاء أن قتادة شهد عند إياس بن معاوية فأجاز شهادته وقال : لا تشهد بعدها ، ولولا معرفتي بك لم أجز شهادتك .

                                                                                                                                                                              وذكر وكيع ، عن سفيان أن قتادة شهد عند إياس بن معاوية وهو أعمى فرد شهادته .

                                                                                                                                                                              واختلف فيه عن ابن أبي ليلى فحكى أبو عبيد عنه أنه قال : إذا شهد عليها بصيرا ، ثم أقامها أعمى جازت شهادته ، إذا كانت الشهادة مما لا يحتاج أن يقف عليها .

                                                                                                                                                                              وحكى الشافعي عنه أنه قال : شهادته جائزة ، وحكى وكيع عنه كحكاية الشافعي، وقال الشافعي : إذا رأى فأثبت وهو بصير ، ثم شهد وهو أعمى [قبلت شهادته ؛ لأن الشهادة إنما وقعت وهو بصير ، إلا أنه بين وهو أعمى عن شيء وهو بصير ، ولا علة في رد شهادته ، فإذا أشهد وهو أعمى ] على شيء . قال : أثبته كما أثبت كل شيء بالصوت أو الحس فلا تجوز شهادته ؛ لأن الصوت يشبه الصوت ، والحس يشبه الحس . قال : فأما إصابة الأعمى أهله وجاريته ، فذلك أمر لا يشبه الشهادات ؛ لأن الأعمى وإن لم يكن يعرف امرأته معرفة البصير ، فقد يعرفها معرفة يكتفى بها ، وتعرفه هي معرفة البصير ، وقد يصيب البصير امرأته في الظلمة على معنى معرفة مضجعها ومجستها ، ولا يجوز أن يشهد على أحد في الظلمة على معرفة لمجسه والمضجع ، وقد يوجد من شهادة الأعمى بد ؛ لأن أكثر الناس غير [ ص: 267 ] عمي . فأما عائشة ومن روى عنها الحديث ، فالحديث إنما قبل على صدق المخبر ، وعلى الأغلب على القلب ، وليس من الشهادات بسبيل ، ألا ترى أنا نقبل في الحديث حدثني فلان عن فلان ولا نقبل في الشهادة حدثني فلان عن فلان حتى يقول : أشهد لسمعت فلانا . ونقبل حديث المرأة حتى نحل [بها ] ونحرم وحدها ، ولا نقبل شهادتها وحدها على شيء ، ونقبل حديث العبد الصادق ولا نقبل شهادته على شيء ، فالحديث غير الشهادة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وفي هذه المسألة أقاويل غير ذلك .

                                                                                                                                                                              روينا عن شريح أنه كان يجيز شهادة الأعمى مع الرجل العدل إذا عرف الصوت .

                                                                                                                                                                              وقال قتادة : كذلك إذا كان معه رجل بصير وكانا عدلين .

                                                                                                                                                                              وسئل الحكم عن شهادة الأعمى . فقال : رب شيء يجوز فيه .

                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن حنبل : تجوز في المواضع في النسب ، وكل شيء يضبطه ، وعرفه معرفة لا تخفى عليه . وبه قال إسحاق .

                                                                                                                                                                              وقال النعمان : تجوز شهادته في التسامع .

                                                                                                                                                                              وقال الحسن : لا يجوز إلا أن يكون شيئا قد رآه قبل أن يذهب بصره . [ ص: 268 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية