الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر العتق في دار الحرب

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا أعتق الرجل من أهل الحرب وهو كافر عبدا له في دار الحرب ، ثم إن عبده أسر ، فاشتراه رجل من المسلمين في دار الإسلام فأعتقه ، فقال بعض أصحابنا : تحتمل هذه المسألة ثلاثة أجوبة : أحدها : أن الولاء للمعتق الأول; لأن ولاءه ثبت له في وقت ما أعتقه ، فلا ينتقل عنه أبدا .

                                                                                                                                                                              والجواب الثاني : أن يكون الولاء للمعتق الآخر الذي أعتقه في دار الإسلام . هذا قول أصحاب الرأي قالوا : لأنه قد سبي وجرى عليه [ ص: 535 ] الرق بعد ذلك فبطل العتق الأول .

                                                                                                                                                                              والجواب الثالث : أن كل واحد منهما معتق ثابت العتق ، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالولاء لمن أعتق ، فليس واحد منهما بأحق بأن يحكم له بالولاء من الآخر ، فولاؤه لهما جميعا ، فإن أسلم المعتق له في دار الحرب وأسلم المعتق ثم مات وخلف أحد مواليه الأول أو الثاني ، ولا وارث له غيره فميراثه له ، وإن كانا جميعا حيين فميراثه بينهما ليس واحد منهما بأحق من الآخر . قال : وهذا أصح هذه الأجوبة وبه أقول .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو أن عبدا أسلم في دار الحرب ثم خرج مسلما إلى دار الإسلام فهو حر ، وهو بمنزلة حر من أهل دار الحرب جاء مسلما ، فميراثه إن مات للمسلمين ، وليس هو مولى لأحد دون أحد ، وليس له أن يوالي أحدا ، في قول الثوري ، وابن أبي ليلى ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : هو حر وله أن يوالي من شاء ، وهو بمنزلة حر من أهل الحرب جاء مسلما ، فله أن يوالي من شاء .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين .

                                                                                                                                                                              6951 - حدثنا يحيى قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين . [ ص: 536 ]

                                                                                                                                                                              وقيل للأوزاعي : إذا خرج عبد إلى المسلمين في دار الحرب فجاءهم في عسكرهم ، أو خرج من دار الحرب إلى دار الإسلام فأخذ أمانا فأسلم . قال : فهو حر وولاؤه للمسلمين . قيل لأبي عمرو : فإن خرج مولاه بعد فأسلم . قال : فلا يرد إليه ولاؤه أبدا . قيل لأبي عمرو : فعبد خرج إلينا مستأمنا فأعطاه الإمام الأمان فأقام عندنا . قال : يوضع عليه الجزية إذا لم يشترط رجعة . قلت : فإن جاء مولاه بعد فأسلم أو أعطى الجزية فسأل أن يرد إليه . قال : لا يرد إليه وهو على ذمته .

                                                                                                                                                                              وقال سفيان الثوري : لا يرد إليه وولاؤه للمسلمين ، فإن جاء السيد فأسلم ، ثم جاء العبد فأسلم رد إلى سيده .

                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي مثل ذلك .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا خرج الرجل من أهل دار الحرب إلينا واشترى عبدا فأعتقه ، ثم رجع المولى المعتق إلى دار الحرب فأسر واسترق ، فإنه عبد لمن اشتراه ، أو صار إليه والمعتق الذي أعتقه مولى له ، ولكن [ ص: 537 ] لا يرثه ما دام عبدا وميراثه لبيت المال .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في عقله : فقال أصحاب الرأي : عقله على نفسه لا يعقل عنه بيت المال; لأن عقله معروف .

                                                                                                                                                                              وقال غيرهم : عقله على بيت المال كما أن ميراثه لهم .

                                                                                                                                                                              وقال آخر : لا يعقل عنه بيت المال وليس عليه أن يعقل عن نفسه; لأن الدية إنما تجب على العاقلة ، فإذا لم تكن عاقلة بطلت الدية .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو أن هذا المولى الذي أسر اشتراه مولاه الذي كان أعتقه صار عبدا له ، والولاء على حاله ، فإن هو أعتقه صار كل واحد منهما مولى صاحبه; لأن كل واحد منهما معتق لصاحبه ، فأيهما مات ولا وارث له غيره ، ورثه إذا كانا مسلمين ، وإذا أعتق الرجل من أهل دار الحرب عبدا ، فالعتق جائز وله ولاؤه . فإن أسلم عبده الذي أعتقه بعدما أعتقه وخرج إلى دار الإسلام فهو مولى له على حاله غير أنهما لا يتوارثان لأن الكافر لا يرث المسلم . فإن أسلم مولاه وخرج إلى دار الإسلام مسلما ، ثم مات المعتق ولا وارث له غيره ورثه .

                                                                                                                                                                              وفي قول أصحاب الرأي : لا يكون مولى له; لأن العتق - قالوا - في دار الحرب باطل .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فإن بطل العتق وجب أن يكون عبدا كما كان ، وإن كان صار حرا ، له أن يوالي من شاء فالولاء للمعتق ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "الولاء لمن أعتق " ولا حجة مع من أبطل العتق في دار الحرب . [ ص: 538 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية