الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر إثبات أمر القافة .

                                                                                                                                                                              6633 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه ، فقال : ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي بزيد وأسامة فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض " .

                                                                                                                                                                              6634 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد قال : كنت مع ابن عباس فجاءه رجل - أظنه من بني كرز - فرأى ابن عباس يسب الغلام أو أمه فتناوله فقال : إنه [لابنك ] . قال : فدعاه ابن عباس وجعل أمه على راحلة ، وكان ابن عباس انتفى منه .

                                                                                                                                                                              6635 - وأخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، أنه شك في ابن له فدعا له القافة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وممن قال بإثبات أمر القافة : عطاء بن أبي رباح ويزيد بن عبد الملك ، وبه قال مالك بن أنس ، والأوزاعي والشافعي، [ ص: 138 ] وأحمد بن حنبل، وأبو ثور . وقال عطاء بن أبي رباح : تداول ثلاثة من التجار جارية فولدت ، فدعا عمر بن الخطاب القافة ، فألحقوه بأحدهم .

                                                                                                                                                                              وقال مالك : العمل بالقافة من الأمر القديم المأخوذ به .

                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : ولا يقبل القائف الواحد حتى يكون أمينا ، ولا أكثر منه حتى يكونوا أمناء ، فإذا أحضرنا القائف والمتداعيين للولد وذوي أرحامهم أحضرنا احتياطا أقرب الناس نسبا وشبها في الخلق والسن والبلد به بالمتداعيين له ، ثم فرقنا بين المتداعيين وأمرنا القائف يلحقه بأبيه أو أقرب الناس بأبيه إن لم يكن له أب - يعني الشافعي : إن كان قد مات الأب - وإن كانت معه أم أحضرنا لها نسبا في القرب منها كما وصفت ثم بدأنا فأمرنا القائف أن يلحقه بأمه (لا) لأن للقائف في الأم معنى و (لكن) يستدل به على صوابه في الأب إن أصاب (منها) ويستدل غيره إن أخطأ فيها .

                                                                                                                                                                              6636 - ومن حديث يزيد بن هارون ، عن عبد الملك بن سليمان ، عن أنس بن سيرين قال : دخلت أنا وإخوتي على زيد بن ثابت فقال : لإنكم إخوة : هذا وهذا لأم ، وهذا لأم . فما أخطأ .

                                                                                                                                                                              واختلف الذين قالوا بالقافة ، في القائف يقول : هو ابنهما : [ ص: 139 ] فقالت طائفة : يكون ابنهما يرثهما ويرثانه .

                                                                                                                                                                              6637 - حدثنا محمد بن بكر بن ثوبة قال : حدثنا بندار ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن توبة العنبري ، عن الشعبي، عن ابن عمر قال : اشترك رجلان في طهر امرأة ، فولدت فدعا عمر بقافة . فقالوا : قد أخذ الشبه منهما جميعا ، قال : فجعله عمر بينهما .

                                                                                                                                                                              6638 - وحدثنا محمد بن نصر ، قال : حدثنا إسحاق بن راهويه ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، أن رجلين اشتركا في طهر امرأة ، فولدت غلاما ، فارتفعا إلى عمر ، فدعا ثلاثة من القافة فدعوا بتراب فوطئه الرجلان والغلام ، فقال أحدهم لعمر حين قال : انظر ، فنظر فاستقبل واستدبر واستعرض ، ثم قال : أأسر أم أعلن ؟ فقال : أسر . فقال : أخذ الشبه منهما فلا أدري من أيهما هو . ثم قال للآخر : انظر ، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر ، ثم قال : أأسر أم أعلن ؟ فقال : بل أسر . فقال : أخذ الشبه منهما فلا أدري من أيهما هو . ثم قال للثالث : انظر فنظر ، فقال : أأسر أم أعلن ؟ فقال : أعلن . فقال : أخذ الشبه منهما ، ولا أدري من أيهما هو . فقال عمر : إنا نقوف الآثار . يردد ذلك ثلاث مرات ، وكان قائفا فورثه منهما وورثهما منه ، ثم قال سعيد : أتدري من عصبته ؟ فقلت : لا . قال : الباقي منهما . [ ص: 140 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وممن قال بظاهر خبر عمر أنه يكون ابنهما يرثهما ويرثانه : أبو ثور .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : إذا كان الولد كبيرا قيل له : انتسب إلى أيهما شئت ، وإن كان صغيرا انتظر به حتى يكبر فينتسب إلى أيهما شاء ، وكذلك إن قالت القافة : أخذ الشبه منهما . هذا قول الشافعي آخر قوليه بمصر ، وقد كان قبل ذلك يقول بنحو من خبر زيد بن أرقم .

                                                                                                                                                                              6639 - أخبرنا الربيع، قال : أخبرنا الشافعي، قال : أخبرنا أنس بن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن [حاطب ] أن رجلين تداعيا ولدا ، فدعا عمر له القافة فقالوا : قد اشتركا فيه . فقال له عمر : والي أيهما شئت .

                                                                                                                                                                              6640 - وحدثنا محمد بن نصر ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا أبو أسامة ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أبيه ، أن رجلين اختصما إلى عمر بن الخطاب في غلام يدعيانه . فقال عمر للغلام : اتبع أيهما شئت . [ ص: 141 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد قال بقول القافة مالك ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والشافعي، وأحمد ، وأبو ثور، وجماعة أهل الحديث ، واستعمل بعضهم في هذا الباب خبر زيد بن أرقم .

                                                                                                                                                                              حدثني ابن توبة ، عن إسحاق بن منصور ، قال : قلت - يعني لأحمد - حديث زيد بن أرقم أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر ؟ قال : حديث عمر في القافة أعجب إلي . قال إسحاق : السنة في هذا رواية زيد بن أرقم لما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                              6641 - حدثنا يحيى بن محمد ، قال : حدثنا مسدد، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، قال : حدثنا أجلح بن عبد الله ، [عن ] عامر ، عن عبد الله بن الخليل الحضرمي ، عن زيد بن أرقم ، أن عليا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفع إليه ثلاثة يتنازعون بعين ولدا ، كلهم يزعم أنه ابنه فخلا باثنين فقال : أتطيبا نفسا لهذا الباقي بالولد ؟ قالا : لا . وخلا باثنين [فقال ] لهما مثل ذلك ، فقالا : لا ، قال : أراكم شركاء متشاكسون ، [ ص: 142 ] فإنا نقرع بينكم فمن أصابته القرعة كان له الولد ، فأقرع بينهم فجعله لأحدهم وأغرمه ثلثي الدية للباقين ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فأخبره ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه .

                                                                                                                                                                              6642 - وحدثنا محمد بن نصر ، قال : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : أخبرنا هشيم ، عن الأجلح ، عن عامر ، عن أبي الخليل ، عن زيد بن أرقم أن عليا حين كان باليمن أتي بثلاثة رهط اشتركوا في ولد ، فأقرع بينهم ، وضمن الذي أصابته القرعة ثلثي الدية لصاحبيه وجعل الولد له ، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته [بقضاء ] علي فضحك حتى بدت نواجذه .

                                                                                                                                                                              وكان أبو ثور يقول : إذا وقتتا البينتين نظرت في الوقتين وإلى الصبي ، فإن كان سن الصبي دون أحد الوقتين فكان سنا أبطلت البينة وقضيت به للأخرى ، وإن كانا مشكلين قضيت بالقافة .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي في المشكل : يقضى به لهما .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا كان صبي في يد رجل ، فادعته امرأة أنه ابنها ، وأقامت شاهدين على ذلك ، فإني أقضي به للمرأة ، فإن كان الذي هو في يده يدعيه لم يقض له به . [ ص: 143 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وأقل ما نقبل على الولادة شهادة أربع نسوة . وهذا قول عطاء ، والشعبي، وقتادة، والشافعي ، وأبي ثور .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا لم يكن للمرأة المدعية إلا امرأة تشهد على الولادة لم يقض لها به ، وإن كان الرجل الذي في يديه يدعيه أنه ابنه ، أو لا يدعيه وشهد أربع نسوة عدول على ولادتها ، قضي به للمرأة ؛ لأن ولادتها قد ثبتت .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : إذا كان الذي هو في يديه لا يدعيه قضينا به للمرأة ، وإن ادعى الذي في يديه أنه عبده وليس بلقيط كان عبده ، ولا يقضى به للمرأة بشهادة امرأة واحدة .

                                                                                                                                                                              وكان أبو ثور يقول : إذا كان العبد في يد رجل ، فادعاه رجل آخر أنه عبده ولد في ملكه ، وأنه أعتقه ، وأقام الذي في يده العبد أنه عبده ولد في ملكه ببينة قضي به للذي هو في يده .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : يقضى به للذي أعتقه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقول أبي ثور أصح ؛ لأن الذي يدعيه إذا لم يثبت له لم يثبت عتقه ، وهو يقول لو لم يذكر المدعي أنه أعتقه لم يحكم له به ، فإذا لم يثبت له ملك لم يجز عتقه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وإذا كان عبد في يد رجل ، فأقام رجل البينة أنه ابنه من أمته هذه ، وأقام الذي هو في يديه البينة أنه عبده ولد في ملكه ، فإنه يقضى به للذي في يديه ، في قول أبي ثور . [ ص: 144 ]

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : يحكم به للمدعي للحرية .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا كان الصبي في يد امرأة ، فأقامت امرأة أخرى امرأة واحدة أنه ابنها وادعت ذلك ، وأقامت الذي هو في يديها امرأة واحدة أنه ابنها وادعته ، فإنه للذي هو في يديها ، وقالوا جميعا : ولو شهد لكل واحد منهما رجلان قضيت به للذي هو في يديها ، ولو لم يشهد للذي هو في يديها إلا امرأة وشهد للمدعية رجلان قضي به للمدعية .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور ، وأصحاب الرأي : لو أن رجلا وامرأة في أيديهما صبي يدعيانه جميعا أنه ابنهما ، وادعى آخر أنه ابنه من امرأته هذه وأقام عليه البينة ، وشهد للذي الصبي في أيديهما امرأة واحدة قضي به للذي أقام البينة .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور : وإذا كان الصبي في يدي ذمي ويدعي أنه ابنه ، وأقام رجل مسلم شاهدين مسلمين أنه ابنه ولد على فراشه ، وأقام الذي هو في يديه شاهدين من أهل الذمة أنه ابنه ولد على فراشه ، فإني أقضي به للمسلم ولا تجوز شهادة أهل الذمة ، ولو شهد للمسلم لم أقض له بشيء ، وكان للذي هو في يديه ولو كان شهود الذمي مسلمين قضي به للذمي .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : يقضى به للمسلم وكذلك لو كان شهود المسلم من أهل الذمة ، وإن كان شهود المسلم من أهل الذمة وشهود الذمي مسلمين قضي به للذي هو في يديه . [ ص: 145 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولو أن رجلا وامرأة في أيديهما صبي ، فقال الرجل : هو ابني من زوجتي فلانة وهي غائبة ، وقالت المرأة : هو ابني من زوجي فلان لرجل آخر وهو غائب ، وأقام كل واحد منهما البينة على ذلك ، فإن أبا ثور قال : أجعله ابن الرجل ولا ألحقه بالمرأة الذي ادعى ، لأنها ليست حاضرة تدعيه ، وكذلك أجعله ابن المرأة ولا ألحقه بالرجل الذي ادعت أنه منه وهو غائب ليس يدعي .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : نجعله ابن الرجل من المرأة وابن المرأة من الرجل .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في صبي لقيط في يد رجل مسلم فادعى رجل مسلم أنه ابنه من امرأته هذه الحرة ، وأقام على ذلك بينة ، فإن الصبي يرى القافة مع هؤلاء ؛ لأن الشهود قد كذب بعضهم بعضا فمن ألحقوه فهو ابنه وهذا قول أبي ثور .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثان : وهو أن يقضى بالصبي للحر دون المكاتب والعبد ؛ لأن هذا عتق في الأصل . هذا قول أصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : إذا كان الصبي في يد رجل ، فادعى عبد أنه ابنه ولد على فراشه من هذه الأمة ، وادعاه مكاتب أنه ابنه ولد على فراشه من هذه المكاتبة ، وأقام كل واحد منهما على ذلك بينة ، فإن هذا يرى القافة في قول أبي ثور ، فبأيهما ألحقوه لحق به .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : نجعله للمكاتب . [ ص: 146 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولم يفزع إلى حجة ولو شاء قائل أن يقول : يجعله للعبد ما كان بين القولين فرق .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور : ولو ادعاه يهودي ونصراني ومجوسي وأقام كل واحد منهما بينة أنه ابنه ولد على فراشه ، فإنه يرى القافة ويلحق بمن ألحقوه به .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي : نجعله ابن اليهودي والنصراني .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وليس عنده بين اليهود والنصارى والمجوس في شيء من الأحكام فرق ، والجزية تؤخذ من جميعهم ، ويزعم أنهم مثله .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور ، وأصحاب الرأي : ولو أن رجلا في يده صبي لا يدعيه ، وأقامت امرأة البينة أنه ابنها ولدته ، وأقام رجل البينة أنه ولد على فراشه قضى به للرجل والمرأة . ولو كان في يد رجل فادعته امرأة أنه ابنها وأقامت على ذلك البينة ، وكذلك لو كان في يد امرأة ، وأقام رجل عليه البينة أنه ابنه ولد على فراشه فهو ابن الرجل والمرأة في قول أبي ثور وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية