الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر من حجه خصمه وأبى أن يحلف له

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في الرجل يدعي قبل آخر مالا فينكر ذلك المدعى عليه وتمنع من اليمين فقالت طائفة : يرد اليمين على المدعي فإذا حلف استحق ما ادعاه ، وروينا هذا القول عن شريح والشعبي وابن سيرين ، وبه قال مالك بن أنس ، وسوار ، وعبيد الله بن الحسن ، والشافعي، وأبو عبيد ، وأبو ثور، والمزني . [ ص: 27 ]

                                                                                                                                                                              6570 - حدثنا علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيد قال : حدثنا عفان عن مسلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي: أن المقداد استسلف من عثمان سبعة آلاف درهم ، فلما اقتضاه أتاه بأربعة آلاف ، فقال عثمان : إنها سبعة . فقال المقداد : ما كانت إلا أربعة ، فلم يزالا حتى ارتفعت إلى عمر . فقال المقداد : يا أمير المؤمنين ليحلف أنها كما يقول وليأخذها . فقال عمر : أنصفك ، احلف أنها كما تقول وخذها .

                                                                                                                                                                              6571 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا شريك ، عن الأسود بن قيس ، عن كلثوم بن الأقمر ، عن رجل من قومه يقال له : حسان قال : عرف حذيفة بعيرا له في يد رجل فصارت اليمين على حذيفة فقال : أفتدي (يميني) بعشرة . قال : لا قال : فبعشرين . قال : لا . قال : فبثلاثين . قال : لا . قال : فبأربعين . قال : لا . فحلف حذيفة وقال : أتراني أستحل أخذه ولا أحلف عليه . [ ص: 28 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : والشافعي يرى رد اليمين في كل شيء يقال للمدعى عليه احلف وذلك مثل النكاح والطلاق والدماء والجراح كلها التي توجب القصاص ، والعقل وفي الكتابة ، والتدبير ، والعتق ، والخلع ، والأكرية والأشربة وغير ذلك ، واحتج الشافعي لقوله بخبر سهل بن أبي حثمة .

                                                                                                                                                                              6572 - أخبرنا الربيع، قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا الثقفي وابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالأنصاريين ، فلما لم يحلفوا رد الأيمان على يهود .

                                                                                                                                                                              6573 - أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا له فوطئ على إصبع رجل من جهينة ، فنزى فيها فمات . قال عمر للذين ادعى عليهم : تحلفون خمسين يمينا ما مات منها ، فأبوا وتحرجوا من الأيمان ، فقال للآخرين : احلفوا أنتم فأبوا .

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين على الأنصاريين ، فلما لم يحلفوا حولها على اليهود ويبرؤون بها قال : ورأى عمر اليمين على الليثيين يبرؤون بها ، فلما أبوا حولها على الجهنيين يستحقون بها وكل [ ص: 29 ] هذا تحويل يمين من موضع قد رئيت فيه إلى الموضع الذي يخالفه فبهذا وما أدركنا عليه أهل العلم فقلنا بقول في رد اليمين وقد قال الله : ( تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله ) وقال : ( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) إلى قوله : ( فيقسمان بالله ) ، واحتج أبو ثور بأن المدعى عليه لما نكل عن اليمين واختلفوا فيما يجب فيه لم يجز أن يحكم باختلاف ؛ لأن طائفة أوجبت الحق بالنكول .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : لا يجب الحق حتى يحلف المدعي ، وإذا حلف المدعي فكل قد أوجب الحق للمدعي فحكمنا بما لا اختلاف فيه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : الذي قاله أبو ثور إنما كان يلزم لو كان إجماعا ، وليس فيه إجماع ؛ لأن ابن أبي ليلى وغيره يقولون : يحبس إن لم يحلف ، وقالت طائفة : المال يلزم بنكول المدعى عليه ، واحتجوا بأخبار أنا ذاكرها إن شاء الله . [ ص: 30 ]

                                                                                                                                                                              6574 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا يحيى ، أنه سمع سالم بن عبد الله بن عمر يحدث ، أن ابن عمر باع غلاما له بالبراءة بثمانمائة درهم ثم إن صاحب العبد خاصم عبد الله بن عمر إلى عثمان فقال : باعني غلاما وبه داء عرفه لم يبينه لي . فقال ابن عمر : قد بعته بالبراءة . فقال عثمان : تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ، فأبى ابن عمر أن يحلف ورد العبد . فذكر سالم أن العبد صح عند ابن عمر حتى باعه بألف وأربعمائة .

                                                                                                                                                                              6575 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا حفص ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس ، أنه أمره أن يستحلف امرأة فأبت أن تحلف فألزمها ذلك .

                                                                                                                                                                              6576 - وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا قيس ، عن واصل بن أبي حرة ، عن إسحاق بن أبي نباتة ، عن أبيه قال : بعت من رجل جارية فمكثت عنده سنتين ، ثم ادعى أنها مجنونة فخاصمني إلى شريح . فقال شريح: ما تقول ؟ فقلت : اشتراها مني منذ سنتين . قال : فاحلف بالله أنك ما بعتها إياه بهذا العيب . قلت : أنا أرد عليه اليمين فأبى شريح . فقال علي بن أبي طالب وهو إلى جنب شريح : قالون ، وعقد بيده ثلاثين . [ ص: 31 ]

                                                                                                                                                                              6577 - وقد روينا عن الحكم أنه قال : لا أرد اليمين .

                                                                                                                                                                              وكان أحمد بن حنبل يقول : لا ترد اليمين ولا يحلف الرجل مع بينته ، واختلف فيه عن إسحاق فحكى إسحاق بن منصور عنه أنه رأى رد اليمين ، وقال في موضع آخر : إن نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه ، وذكر قول ابن عباس في المرأتين اللتين تخرزان ، وقال أصحاب الرأي : إذا أبى أن يحلف ، لزمه الحق . وفسر ذلك بعض أصحابه فقال : إن أبى أن يحلف يقول له القاضي : إني أعرض عليك اليمين ثلاث مرات فإن حلفت وإلا ألزمتك دعوى الرجل .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وفي هذه المسألة قول ثالث : وهو أن المدعى عليه إذا أبى أن يحلف أخذه الحاكم باليمين ؛ لأن قوله : اليمين على المدعى عليه . إيجاب عليه أن يحلف ، فإذا امتنع مما يجب عليه أخذ به هذا قول قاله بعض أهل العلم ، وكان ابن أبي ليلى يقول في الخصم يقول للقاضي : لا أقر ولا أنكر : أدعه حتى يقر أو ينكر . [ ص: 32 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : أما من ألزم الحكم بالنكول ، فلسنا نعلم معهم حجة تلزم ، أما حديث ابن عمر فإنما امتنع ابن عمر من اليمين ، فرد العبد ، وليس في شيء من الأخبار أن عثمان حكم عليه بالنكول ، إنما أخذ ابن عمر العبد من غير حكم حكم عليه عثمان ، وأما حديث ابن عباس فإنما رواه بعضهم على الاختصار ، وفي حديث حماد بن زيد ، عن أيوب أن المرأة أقرت .

                                                                                                                                                                              6578 - حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا أبو النعمان قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة قال : بعثني ابن الزبير على قضاء الطائف فقلت لابن عباس: إن هذا قد بعثني على قضاء الطائف ولا غنى لي عنك أن أسألك فقال لي : نعم اكتب لي فيما بدا لك - أو سل عما بدا لك - فرفع إلي امرأتان كانتا في بيت تخرزان ، فادعت إحداهما أنها طعنتها الأخرى في كفها وقوما في بيت فكتبت إلى ابن عباس أسأله عن ذلك فكتب إلي : أنه لا يقضي في مثل هذا إلا (بالروية) ولكن ادعها واتل عليها الآية ثم استحلفها : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) إلى آخر الآية قال : فقرأت عليها ثم ذهبت أستحلفها فأبت أن تحلف وأقرت . [ ص: 33 ]

                                                                                                                                                                              وحديث علي إسناده واهي ، وقد ثبت عن شريح من غير وجه أنه كان يرى رد اليمين .

                                                                                                                                                                              6579 - حدثنا أبو حاتم الرازي ، قال : حدثنا سليمان بن حرب سنة خمس عشرة بمكة ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد ، أن شريحا كان يرى رد اليمين - قال سليمان : هذا قاضي عمر بن الخطاب ، وعثمان، وعلي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فليس لأصحاب الرأي في شيء من هذه الأخبار حجة فإن احتج محتج بآية الملاعنة ، وقال : إن نكول الزوجة عن الشهادة يوجب عليها العذاب فهذا غلط من مدعيه ؛ لأن في قوله جل ذكره : ( ويدرأ عنها العذاب ) أبين البيان على أنها إنما تدرأ عن نفسها العذاب [ ص: 34 ] الذي وجب عليها بشهادات الزوج لا بنكولها عن اللعان ، لأنها إنما تدرأ عن نفسها ما قد وجب لا ما لم يجب ، وليس كذلك المدعى عليه لم يجب عليه شيء يدفعه عن نفسه كما تدفع الملاعنة عن نفسها ما قد وجب عليها بشهادات الزوج ، على أن الكوفي ليس بتارك المناقضة في قوله : لأنه يزعم أن النكول يقوم مقام الإقرار ، ثم نقض ذلك ورجع عنه ، فقال : إذا ادعى رجل على رجل أنه قتل وليا له عمدا ، فنكل عن اليمين أن القياس أن يقتل ، ولكنه زعم : يستحسن فيحبسه حتى يقر فيقتل أو يحلف فيبرأ . فترك الحق الذي دعا إليه حيث جعل النكول يقوم مقام الإقرار ثم خالف القياس الذي زعم أنه حق إلى غير الحق واستحسن ما ليس بحق وقد لزمه الخطأ من جهة أخرى ، وهذا سبيل من ترك الحق إيجابه الحبس بغير حجة يرجع إليها ، وخالفه يعقوب فأحدث قولا لا دليل عليه خلاف أصولهم فأوجب عليه الدية ، وهم لا يرون أن الدية تجب في قتل العمد ، وزعموا في القتيل يوجد في محلة قوم أن يحلف من أهل المحلة خمسون فإذا حلفوا غرموا ، فلا هم أوجبوا عليه بالنكول القتل ولا الدية ولا هم أبرؤوهم بأيمانهم ، ولكنهم أحدثوا من عند أنفسهم حكما لا دليل عليه ، فإن زعموا أنهم اتبعوا فيه الخبر عن عمر فالخبر فيه عن عمر غير ثابت ؛ لأن الشعبي رواه عنه وهو لم يلقه .

                                                                                                                                                                              6580 - حدثناه علي بن الحسن، قال حدثنا عبد الله ، عن سفيان قال : حدثنا فراس ومخول ، عن الشعبي، أن قتيلا وجد بين وداعة [ ص: 35 ] وشاكر فقاسوا ما بين القريتين . وهذا منقطع لا تقوم به الحجة ، والأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على خلاف هذا القول ، وقد ذكرناها في كتاب القسامة واللعان الذي ذكروا أنهم اتبعوه ، هم تاركون له ، وزعموا أنهم يوجبون المال على المدعى عليه بنكوله ويوجبون عليها الحبس إذا أبت أن تشهد في باب اللعان فأظهروا أنهم يقيسون على اللعان ، ثم خالفوه فأوجبوا حبسا لا حجة معهم توجب في ذلك على المرأة إذا أبت اللعان ، ثم تخطوا ما قالوه إلى أن قالوا : لا يجب الحكم بالنكول في أول مرة كما يجب الحكم إذا أقر بالمال مرة ، فقالوا : لا يحكم عليه حتى يعرض عليه ذلك ثلاث مرار ، فإن كان النكول يقوم مقام الإقرار فإذا عرضت اليمين عليه فأباها مرة وجب أن يحكم عليه وما يكاد القوم يدعون إلى شيء فيقيسوا عليه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد دفع ناس الحجج التي احتج بها أصحابنا في رد اليمين فمن ذلك أنهم قالوا : غير جائز أن يكون رد اليمين قياسا على القسامة ؛ لأن الأيمان في القسامة أن يبدأ بها مدعيها فيستحق المال أليس كذلك مدعي المال يدعي المال ابتداء فيحلف ويستحق المال كما يفعل في الأيمان في القسامة ، وكل واحد من هذين أصل في نفسه لا يجوز أن يجعل قياسا على غيره والأيمان في القسامة خمسون وهي في سائر الحقوق يمين واحدة ، فإذا افترقت من أصولها لم يجز أن [ ص: 36 ] يجعل فروعا قياسا على ما قد افترق الأصل فيه . وأما خبر سليمان بن يسار ، وعراك بن مالك فمرسل والمرسل لا يجوز الاحتجاج به ، وأبعد من ذلك احتجاج من احتج منهم في هذا الباب بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) الآية ، لأنهم يرون أن رد اليمين إنما يجب إذا امتنع المدعى عليه من اليمين والآخران من غيرنا اللذين شهدا وأقسما ليسا بمدعى عليهما لو أقرا وجب عليهما الحكم ، وإنما يشهدان ويقسمان بعد قسم الأولين فهما يمينان من الأولين والآخرين بعدهما وشهادتان والناكل عن اليمين إنما يحلف المدعي وحده وليس في هذين الصنفين مدعي ولا مدعى عليه على أن المحتج بهذه الآية يذكر أنها منسوخة ، فإذا كانت منسوخة في نفسها كيف تكون محكمة لأن يقاس عليها ما يشبهها فكيف يقاس عليها ما لا يشبهها ؟! هذا مستحيل من كل وجه أن يجعل بأن رد اليمين قياسا عليها .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وليس يجوز القول في هذا إلا واحد من قولين ، إما أن يجب المال بنكول المدعى عليه ويمين المدعي ، أو يجب أخذ المدعي باليمين حتى يخرج مما وجب عليه من اليمين فأما وجوب المال بالنكول فغير جائز ذلك إذ هو قول لا معنى له ، واختلفوا في المدعي يرد عليه اليمين فلا يحلف ، فقالت طائفة : بطل حقه إلا أن يأتي ببينة على أصل المال ، فيستحق المال ببينته . فممن قال : إذا رد اليمين على الطالب فلم يحلف لم يعط شيئا : شريح، وعبد الله بن عتبة ، ومالك بن أنس ، [ ص: 37 ] والشافعي . وقال مالك : إذا قيل للرجل : احلف مع شاهدك فيأبى فيرد اليمين على المدعي ثم يريد بعد ذلك أن يحلف ويستحق حقه قال : ليس ذلك له ويحلف المدعى عليه ويبرأ ، وقال أبو ثور : إذا نكل المدعى عليه ، وأبى المدعي أن يحلف قيل له : لك ملازمته حتى يحلف فيبرأ من المطالبة إلا أن يكون لك بينة على ما وصفنا ، ويحلف فيستحق الحق فإن سأل حبسه حتى يحلف ، ففيها قولان : أحدهما : أن يحبس . والآخر : لا يحبس ؛ لأن الحبس عقوبة ولا يجوز أن يعاقب من لا يعلم أنه مستحق لذلك .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية