الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على البسملة


          يا ناظرا يرنوا بعيني راقد ومشاهدا للأمر غير مشاهد     منيت نفسك ظلة وأبحتها
          طرق الرجاء وهن غير قواصد     تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
          درج الجنان بها وفوز العابد     ونسيت أن الله أخرج آدما
          منها إلى الدنيا بذنب واحد

          روى الضحاك عن ابن عباس قال : بينما آدم يبكي إذ جاءه جبريل ، عليه السلام ، فسلم عليه فبكى آدم فبكى جبريل لبكائه وقال : يا آدم ، ما هذا البكاء ؟ فقال : يا جبريل وكيف لا أبكي وقد حولني ربي من السماء إلى الأرض ومن دار النعمة إلى دار البؤس .

          فانطلق جبريل بمقالته فقال الله تعالى : يا جبريل انطلق إليه وقل له : يا آدم ، يقول لك ربك : ألم أخلقك بيدي ؟ ألم أنفخ فيك من روحي ؟ ألم أسجد لك ملائكتي ؟ ألم أسكنك جنتي ؟ ألم آمرك فعصيتني ؟ وعزتي وجلالي لو أن ملء الأرض رجالا مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين ، غير أنه يا آدم سبقت رحمتي غضبي ، وقد سمعت تضرعك ورحمت بكاءك وأقلت عثرتك .

          طوبى لمن قرن ذنبه بالاعتذار ، وتلافاه باستغفاره آناء الليل وأطراف النهار ، والويل كل الويل لمن أحكم عقد الإصرار ، أيها العاصي تفكر في حال أبيك ، وتذكر ما جرى له ويكفيك ، أبعد بعد القرب من ربه ، أهبط من الجنة لشؤم ذنبه ، وأسره العدو بخديعته ، ويسعى في هلاكك فاعتبر به ، فرحم الله امرءا تأهب لمحاربة عدوه في رواحه وغدوه ، فإنه مراصده في القول والعمل ويحسن له بالمكر والتسويف الأمل ، ويذكره الهوى وينسيه الأجل ، فليلبس أحصن الجنن ، فالرامي يطلب الخلل .


          اصبر لمر حوادث الدهر     فلتحمدن مغبة الصبر
          واجهد لنفسك قبل ميتتها     واذخر ليوم تفاضل الذخر
          فكأن أهلك قد دعوك فلم     تسمع وأنت محشرج الصدر
          وكأنهم قد قلبوك على     ظهر السرير وأنت لا تدري
          وكأنهم قد زودوك بما     يتزود الهلكى من العطر
          [ ص: 24 ] يا ليت شعري كيف أنت إذا     غسلت بالكافور والسدر
          أوليت شعري كيف أنت على     نبش الضريح وظلمة القبر
          يا ليت شعري ما أقول إذا     وضع الكتاب صبيحة الحشر
          ما حجتي فيما أتيت على     علم ومعرفة وما عذري
          يا سوأتا مما اكتسبت ويا     أسفي على ما فات من عمري
          ألا أكون عقلت شأني فاستق     بلت ما استدبرت من أمري

          يا مضيع الزمان فيما ينقص الإيمان ، يا معرضا عن الأرباح معترضا للخسران ، متى تنتبه من رقادك أيها الوسنان ، متى تفيق لنفسك ؟ أما حق أما آن ؟ !


          رجوت خلودا بعد ما مات آدم     ونوح ومن بعد النبيين من قرن
          وسوفت بالأعمال حتى تصرمت     سنوك فلا مال ولا ولد يغني
          فشمر لدار الخلد فاز مشمر     إليها ونال الأمن في منزل الأمن
          لقد شغلتنا أم دفر بزخرف     شغلنا به عن طاعة الله ذي المن
          عجبت لدنيا لا تسر وإنما     تشوب على تلك المسرة بالحزن
          ونحن عليها عاكفون كأنما     بنا نبه من فعلها حلم الجفن

          إلام يرفض قول الناصح وقد أتاك بأمر واضح ، أترضى بالشين والقبائح ، كأني بك قد نقلت إلى بطون الصفائح ، وبقيت محبوسا تحت تلك الضرائح ، وختم الكتاب على آفات وقبائح .


          إنا على قلعة من هذه الدار     نساق عنها بإمساء وإبكار
          نبكي ونندب آثار الذين مضوا     وسوف تلحق آثار بآثار
          طالت عمارتنا الدنيا على غرر     ونحن نعلم أنا غير عمار
          يا من يحث بترحال على عجل     ليس بالمحلة غير الفوز من نار
          فاترك مفاخرة الدنيا وزينتها     يوم القيامة يوم الفخر والعار

          لقد أبانت الدنيا للنواظر عيوبها ، وكشفت للبصائر غيوبها ، وعددت على المسامع ذنوبها ، وما مرت حتى أمرت مشروبها ، فلذتها مثل لمعان برق ، ومصيبتها واسعة الخرق ، سوت عواقبها بين سلطان الغرب والشرق ، وبين عبد قن وحقير ولا فرق ، فما نجا منها ذو عدد ولا سلم فيها صاحب عدد ، مزقت والله الكل بكف البدد ثم ولت وما ألوت على أحد . [ ص: 25 ]

          أخبرنا أحمد بن محمد المدادي قال أنبأنا الحسن بن أحمد بن البنا ، قال حدثنا الحسين بن بشران ، قال حدثنا ابن صفوان ، قال : حدثنا أبو بكر القرشي ، قال : حدثني أبو علي الطائي ، قال حدثني المحاربي ، عن ليث ، أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة فقال لها : كم تزوجت ؟ فقالت : لا أحصيهم . قال : أو كلهم مات عنك أو كلهم طلقك ؟ .

          قالت : بل كلهم قتلت .

          فقال عيسى : بؤسا لأزواجك الباقين ، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين !


          إلام تغر بالزمل الطويل     وليس إلى الإقامة من سبيل
          فدع عنك التعلل بالأماني     فما بعد المشيب سوى الرحيل
          أتأمن أن تدوم على الليالي     وكم أفنين قبلك من خليل
          وما زالت بنات الدهر تفني     بني الأيام جيلا بعد جيل

          لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا ، وسمعوا منادي : والله يدعو فأجابوا ، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا ، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا ، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا .

          أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، قال حدثنا أبو الحسين بن عبد الجبار ، قال : أخبرنا محمد بن علي بن الفتح ، قال أنبأنا محمد بن عبد الله الدقاق ، أنبأنا ابن صفوان حدثنا أبو بكر القرشي ، أخبرنا محمد بن الحسين ، قال حدثني عبد الله بن عثمان ، قال حدثني عمار بن عمرو البجلي ، قال سمعت عمر بن ذر يقول : لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم ، قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قد وهب الله لهم من السهر وطول التهجد ، فاستقبلوا الليل بأبدانهم ، وباشروا ظلمته بصفائح وجوههم ، فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة ، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة ، فأصبح الفريقان وقد ولى الليل بربح وغبن ، فاعملوا لأنفسكم في هذا الليل وسواده ، فإن المغبون من غبن خير الدنيا والآخرة ، كم من قائم لله تعالى في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته ، وكم من نائم قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله تعالى للعابدين غدا .

          أخبرنا عمر بن ظفر ، قال أنبأنا جعفر بن أحمد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن علي ، [ ص: 26 ] قال : حدثنا علي بن عبد الله الصوفي ، قال : حدثني علي بن العباس ، قال حدثني علي ابن سلمان ، قال : رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم فسمعته يقول :


          لولا اللذين لهم ورد يقومونا     وآخرون لهم سرد يصومونا
          لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا     لأنكم قوم سوء ما تطيعونا

          يا من أعماله كلها إذا تؤملت سقط ، كم أثبت له عمل فلما عدم الإخلاص سقط ، يا حاضر الذهن في الدنيا فإذا جاء الدين خلط ، يجعل همه في الحساب فإذا صلى اختلط ، يا ساكتا عن الصواب فإذا تكلم لفظ ، يا قريب الأجل وهو يجري من الزلل على نمط ، يا متكاثف الدرن لم يغسل ولم يمط ، يا من لا يعظه وهن ولا كلام الشمط ، أما خط الشيب يضحك في مفرق الرأس إذا وخط ، أما المقام للرحيل وعلى هذا شرط ، يا من لا يرعوي ولا ينتهي بل على منهاج الخطيئة فقط ، يا مثبتا قبيح المعاصي لو تاب لانكشط ، أما تميل إلى الصواب أما تترك الغلط ، يا من إذا قيل له : ويحك أقسط قسط ، إلى كم جور وظلم ، إلى كم جهل وشطط ، ويحك بادر هذا الزمان الخالي الملتقط ، فالصحة غنيمة والعافية لقط ، فكأنك بالموت قد سل سيفه عليك واخترط ، أين العزيز في الدنيا أين الغني المغتبط ، خيم بين القبور ، وضرب فسطاطه في الوسط ، وبات في اللحد محبوسا كالأسير المرتبط ، واستلبت ذخائره ففرغ الصندوق والسفط ، وتمزق الجلد المستحسن وتمعط الشعر القطط ، كأنه ما رجله قط وكأنه ما امتشط ، وبعد عنه من يحبه إي والله وسخط ورضي وراثه بما أصابوه وجعلوا نصيبه السخط ، وفرقوا ما كان يجمعه بكف البخل والقنط ، ووقع في قفر لا ماء فيه ولا حنط ، وكم حذر من وقوعه ، وكم أوقف على النقط ، وكم حدث أن سعد بن معاذ في القبر انضغط ، ويحك ، اقبل نصحي ولا تتعرض للسخط ، واحذر من المعاصي ، فبلقمة زل آدم وهبط ، ويحك ، اغتنم رخص السعر ، فكأن قد قحط ، وبادر للسلامة فكأن قبض من بسط ، وتفكر كيف كف بالعقوبة كف من انبسط ، أترى تقبل قول النذير أو لا تصدق الفرط . [ ص: 27 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية