الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 482 ] المجلس الثامن

          في ذكر العشر وليلة القدر

          الحمد لله عالم السر والجهر ، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر ، محصي قطرات الماء وهو يجري في النهر ، فضل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر ليلة القدر خير من ألف شهر فهو المتفرد بإيجاد خلقه المتوحد بإدرار رزقه ، القديم فالسبق لسبقه ، الكريم فما قام مخلوق بحقه ، عالم بسر العبد وسامع نطقه ، ومقدر علمه وعمله وعمره وفعله وخلقه ، ومجازيه على عيبه وذنبه وكذبه وصدقه ، المالك القهار فالكل في أسر رقه ، الحليم الستار فالخلق في ظل رفقه ، أرسل السحاب تخاف صواعقه ويطمع في ودقه ، يزعج القلوب رواعده ويكاد سنا برقه ، جعل الشمس سراجا والقمر نورا بين غربه وشرقه .

          أحمده على الهدى وتسهيل طرقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في رنقه وفتقه ، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله والضلال عام فمحاه بمحقه ، صلى الله عليه وعلى آله وصاحبه أبي بكر السابق بصدقه ، وعلى عمر كاسر كسرى ، بتدبيره وحذقه ، وعلى عثمان جامع القرآن بعد تبديده في رقه ، وعلى علي واعذرونا في عشقه ، وعلى عمه العباس مشاركه في أصله وعرقه .

          قال الله عز وجل : إنا أنزلناه في ليلة القدر الهاء في أنزلناه كناية عن القرآن ، وذلك أنه أنزل جملة في تلك الليلة إلى بيت العزة وهو بيت في السماء الدنيا .

          وفي تسميتها بليلة القدر خمسة أقوال :

          أحدها : أنها ليلة العظمة ، يقال : لفلان قدر ، قاله الزهري ، ويشهد له : وما قدروا الله حق قدره .

          والثاني : في الضيق ، أي هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون ، قاله الخليل بن أحمد ويشهد له : ومن قدر عليه رزقه .

          والثالث : أن القدر الحكم كأن الأشياء تقدر فيها ، قاله ابن قتيبة .

          والرابع : لأن من لم يكن قدر صار بمراعاتها ذا قدر ، قاله أبو بكر الوراق .

          [ ص: 483 ] والخامس : لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر وينزل فيها رحمة ذات قدر وملائكة ذوو قدر ، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله .

          قوله تعالى : وما أدراك ما ليلة القدر هذا على سبيل التعظيم لها والتشويق إلى خبرها .

          في قوله تعالى : ليلة القدر خير من ألف شهر قولان :

          أحدهما : أنها من زمان بني إسرائيل ثم في ذلك قولان : أحدهما : ما رواه عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه ألف شهر فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وتمنى أن يكون ذلك في أمته ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، وقال : هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله ، والثاني : أن الرجل كان فيما مضى لا يستحق أن يقال له عابد حتى يعبد الله ألف شهر ، فجعل الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر التي كانوا يعبدون فيها .

          والقول الثاني : أن الألف شهر من هذا الزمان ، قال مجاهد : قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر من هذا الزمان وصيامها ليس فيها ليلة القدر ، وهذا قول قتادة واختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج .

          قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح قال أبو هريرة : الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى .

          وفي الروح ثلاثة أقوال :

          أحدها : أنه جبريل ، قاله الأكثرون ، وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل .

          والثاني : أن الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، قاله كعب ومقاتل بن حيان .

          والثالث : أنه ملك عظيم من الملائكة ، قاله الواقدي .

          قوله تعالى فيها أي في ليلة القدر ، قوله عز وجل : بإذن ربهم أي بأمر ربهم والمعنى : ما أمر به وقضاه من كل أمر قال ابن قتيبة : أي بكل أمر ، قال المفسرون : ينزلون بكل أمر قضاه الله تعالى في تلك السنة إلى قابل .

          [ ص: 484 ] قوله تعالى : سلام هي أي ليلة القدر سلام ، وفي معنى السلام قولان : أحدهما : أنه لا يحدث فيها داء ولا يرسل فيها شيطان ، قاله مجاهد ، والثاني : أن معنى السلام الخير والبركة ، قاله قتادة .

          واعلم أن ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة ، قال أبو ذر رضي الله عنه : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر في رمضان هي أو في غيره ؟ فقال : بل هي في رمضان ، قلت : تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : بل هي إلى يوم القيامة ، قلت : في أي رمضان هي ؟ قال : التمسوها في العشر الأول والعشر الآخر . قلت : في أي العشرين هي ؟ قال : ابتغوها في العشر الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعد ، ثم حدث وحدث فقلت : يا رسول الله أقسمت عليك بحقي عليك لما أخبرتني في أي العشر هي ؟ فغضب علي غضبا لم يغضب علي مثله قال : " التمسوها في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها " .

          وقد ذهب قوم إلى أنها ليلة سبع عشرة من رمضان .

          أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك بسنده عن زيد بن أرقم أنه سئل عن ليلة القدر فقال : هي ليلة سبع عشرة لا شك فيها ، ثم قال : ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان .

          واعلم أن الجمهور على أنها في العشر الأواخر وأنها تختص بالأفراد واختلفوا في الأخص بها ، فذهب الشافعي رحمه الله إلى ليلة إحدى وعشرين ويدل عليه حديث أبي سعيد وهو في الصحيحين قال : أري رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القدر ثم أنسيها قال : أراني أسجد في ماء وطين ، فوالذي أكرمه لرأيته يصلي بنا صلاة المغرب ليلة إحدى وعشرين وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين .

          والثاني : ليلة ثلاث وعشرين وروى مسلم في أفراده من حديث عبد الله بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أراني صبيحتها أسجد في ماء وطين " فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه .

          وأخبرنا ابن الحصين بسنده عن عكرمة قال : قال ابن عباس : أتيت وأنا نائم فقيل لي : [ ص: 485 ] إن الليلة ليلة القدر ، فقمت وأنا ناعس فتعلقت ببعض أطناب فسطاط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يصلي فنظرت في تلك الليلة فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين .

          أخبرنا محمد بن ناصر بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينضح الماء في وجوه نسائه ليلة ثلاث وعشرين من رمضان . تفرد بإخراجه أبو بحر .

          والثالث : ليلة خمس وعشرين وروى هذا المعنى أبو بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          والرابع : ليلة سبع وعشرين أخبرنا ابن الحصين بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان متحريا فليتحرها ليلة سبع وعشرين ، أو قال : تحروها ليلة سبع وعشرين " . انفرد بإخراجه مسلم .

          أخبرنا ابن ناصر بسنده عن زر بن حبيش قال : أخبرنا أبي بن كعب عن ليلة القدر فحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، فقلت : بم تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ فقال : بالآية أو بالعلامة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس وليس لها شعاع ، أخبرنا ابن الحصين بسنده عن عاصم عن زر قال : قلت لأبي بن كعب : أبا المنذر أخبرني عن ليلة القدر ، قال صاحبنا : يعني ابن مسعود ، كان إذا سئل عنها قال : من يقم الحول يصبها ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن أما والله لقد علم أنها في رمضان ولكن أحب أن لا تتكلوا وأنها ليلة سبع وعشرين لم يستثن قلت : أبا المنذر أنى أعلم ذلك ؟ قال : بالآية التي قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة ليلة القدر تطلع الشمس لا شعاع لها كأنها طست حتى ترتفع . لفظ المقدمي ، قال ابن ناصر : عال صحيح .

          [ ص: 486 ] أخبرنا علي بن عبيد الله بسنده عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني شيخ كبير يشق علي القيام فمرني بليلة لعل الله عز وجل أن يوفقني فيها لليلة القدر فقال : عليك بالسابعة .

          أخبرنا أبو منصور القزاز بسنده عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليلة القدر ليلة سبع وعشرين " .

          وهذا مذهب علي عليه السلام وابن عباس رضي الله عنهما ، وقد روي عن ابن عباس أنه استدل على ذلك شيئين : أحدهما أن السبعة تتكرر في المخلوقات ، فالأرض سبع ، والثاني : أن قوله " هي " هي الكلمة السابعة والعشرون ، وقال عبدة بن أبي لبابة : ذقت ماء البحر ليلة سبع وعشرين فوجدته عذبا .

          واستدل بعضهم بأن ليلة القدر تكررت في هذه السورة ثلاث مرات وهي تسعة أحرف ، والتسعة إذا كررت ثلاثا كانت سبعة وعشرين .

          والخامس : مشكوك فيه ، أخبرنا ابن الحصين بسنده عن أنس عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم ، فالتمسوها في التاسعة أو السابعة أو الخامسة " .

          انفرد بإخراجه البخاري .

          قال أحمد : وحدثنا حيوة ، عن ابن شريح ، عن بقية ، عن بجير بن معدان ، عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليلة القدر في العشر البواقي من قامهن ابتغاء حسبتهن فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهي ليلة وتر تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة .

          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أمارة ليلة القدر أنها صافية كأن فيها قمرا ساطعا ساكنة صاحية لا برد فيها ولا حر ، ولا يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح ، وإن أمارتها أن [ ص: 487 ] صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ " .

          قال أحمد : وأخبرنا سليمان بن داود ، عن عمران القطان عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين إن الملائكة تلك الليلة أكثر من عدد الحصى .

          أخبرنا محمد بن عبد الله القاضي ويحيى بن علي المدير بسندهما عن حميد عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر التاسعة والسابعة والخامسة وآخر ليلة ، وهي ليلة بلجة لا حارة ولا باردة ولا يرمى فيها بنجم ولا ينبح فيها كلب " ، أخبرنا الكروخي بسنده عن ابن عيينة بن عبد الرحمن قال : حدثني أبي قال : ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال : ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر فإني سمعته يقول : " التمسوها في تسع بقين أو سبع بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة " .

          قال الترمذي : وأخبرنا عبد بن حميد ، عن عبد الرزاق عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر .

          وقد روي عن مجاهد قال : ليلة القدر ليلة أربع وعشرين أخذه من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان .

          وقال سعيد بن جبير : كنا مع ابن عباس في المسجد الحرام فخفق رأسه خفقة فقال : أي ليلة هذه ؟ قلنا ليلة أربع وعشرين ، قال : الليلة ليلة القدر لأن الملائكة نزلوا من السماء وعليهم ثياب بيض .

          [ ص: 488 ] قلت : والحكمة في إخفائها أن يتحقق اجتهاد الطالب كما أخفيت ساعة الليل وساعة الجمعة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره ، كان يسهر ليله ويحمل كله فيشد مئزره ويقوم الليل كله .

          وقد أخبرنا أبو عبد الله السلال بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " ـ أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار بسنده عن عائشة رضي الله عنهما قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان يحيي الليل كله ويوقظ أهله ويشد المئزر . أخرجاه في الصحيحين .

          وفي أفراد مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره .

          وفي الصحيحين من حديثها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل وأخرجاه من حديث ابن عمر قال : اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأول من رمضان فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إن الذي تطلب أمامك .

          وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " .

          وكذلك في حديث عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " .

          [ ص: 489 ] قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إذا وافقت ليلة القدر فما أدعو ؟ فقال : " قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني " .

          وقد كان السلف يتأهبون لها ، فكان لتميم الداري حلة بألف درهم يلبسها في الليلة التي يرجى أنها ليلة القدر ، وكان ثابت وحميد يغتسلان ويتطيبان ويلبسان أحسن ثيابهما ويطيبان مساجدهما في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر .

          إخواني : والله ما يغلو في طلبها عشر ، لا والله ولا شهر ، لا والله ولا دهر ، فاجتهدوا في الطلب فرب مجتهد أصاب .

          أخبرنا محمد بن ناصر بسنده عن قتادة عن أنس رضي الله عنهما قال : لما دخل رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هذا الشهر قد دخل عليكم فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرمها فقد حرم الخير كله ، ولا يحرم خيرها إلا كل محروم " .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية